«سيتمّ السماح لبعض المناطق والأشخاص بتحقيق الثراء أوّلاً، حتى يتمكّنوا من مساعدة الآخرين على تحقيق الرخاء المشترك تدريجاً». هذا ما قاله الرئيس الصيني السابق، دنغ شياو بينغ، عام 1985، بعد سنوات قليلة على إطلاق سياسة «الإصلاح والانفتاح» عام 1979، راسماً بذلك مسار بلاده للسنوات الأربعين المقبل، فيما يسود اعتقاد واسع اليوم بأن المؤتمر العشرين لـ«الحزب الشيوعي» سيطلق موجة جديدة من هذه السياسة. في نقاش مع لي غوان مين، أحد كبار الباحثين الاقتصاديين في جامعة «تشينغداو»، يقول الأخير إنه طوال العقود الأربعة الماضية، كان «الإصلاح والانفتاح» قائماً على أساس اكتساب المعرفة من الدول المتقدّمة، في حين أنه بنسخته الجديدة يرتكز على الانفتاح على الدول الأقلّ نموّاً، مِن مِثل دول «البريكس» وتلك المنضمَّة إلى مبادرة «الحزام والطريق»، علماً أن المسار الأخير بدأ عملياً منذ وصول شي جين بينغ إلى قيادة الحزب في الصين عام 2012، إذ بعد سنة واحدة على تَسلّمه الحُكم، أطلق مبادرة «الحزام والطريق» الشهيرة، والتي تُصنَّف اليوم إحدى أضخم المبادرات الاقتصادية في التاريخ، حيث وصل عدد الدول المنضمَّة إليها إلى 124، إضافة إلى 29 منظّمة دولية.إلّا أن تحدّيات كبيرة تُواجه الطموح الصيني، أهمّها أن النموذج الذي تطرحه الصين، والقائم على «التعاون المشترك والربح المشترك»، إنّما هو نقيض النموذج الأميركي القائم على الحرب والعقوبات والاحتكار. وبالتالي، فالصين هي العدو الأوّل للولايات المتحدة، كونها تستثمر نموّها الاقتصادي المستمرّ في سبيل بناء علاقات دولية جديدة تتهدّد الهيمنة الأميركية على العالم. ولذا، لن تسمح واشنطن للمثال الصيني بأن يسود عالمياً، بل ستعمل على زعزعة استقرار الصين، ومضاعفة الضغوط عليها وخاصة من خلال العقوبات، بالإضافة إلى خلْق الأزمات والحروب في أكثر من منطقة في العالم بهدف عرقلة مخطّطات بكين. وفي هذا السياق، يمكن للولايات المتحدة، مثلاً، إذا ما استمرّ التباعد بينها وبين دول الخليج، والذي سيقود حتماً إلى مزيد من التقارب مع الصين وروسيا، أن تلجأ إلى افتعال صراعات داخل هذه الدول.
يقول لي إن الصين يمكنها نظرياً أن تحدّد مَن هي الأطراف التي تريد الانفتاح عليها، ولكن السؤال الأساسي اليوم هو سؤال الحرب والسلم. بمعنى آخر، يحتاج النهج الصيني إلى أن يسود السلامُ العالمَ، الذي يقف اليوم على حافّة حرب شاملة، بفعل استماتة الولايات المتحدة في حفْظ هيمنتها على النظام العالمي من خلال الآلة الحربية الأميركية وأذرعها المختلفة، وعلى رأس حلف «الناتو». وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن للصين أن تقف متفرّجة إزاء ذلك المفترق التاريخي، بل يُنتظَر منها أن تمثّل طرفاً أساسياً في عملية تشكيل النظام العالمي البديل. وفي هذا الإطار، تُظهر العودة إلى خطابات المسؤولين الصينيين في السنوات الثلاث الماضية، أن كلّاً منها يكاد لا يخلو من إشارة إلى أن النظام العالمي القائم على الهيمنة قد انتهى، وأن نظاماً جديداً في طوْر النشوء، وهو ما يُتوقّع أن يشدّد عليه أيضاً المؤتمر العشرون لـ«الحزب الشيوعي».
هذا فيما يخص الانفتاح. أما «الإصلاح»، فهو يتعلق بالتصدي لمجموعة من التحديات الداخلية، وقد تكون قرارات المؤتمر الحالي للحزب الشيوعي الصيني تاريخية في هذا الإطار. بعض هذه التحديات كانت مطروحة منذ المؤتمر الثامن عشر في العام 2012، وقد تم تحقيق نتائج إيجابية في عملية التصدي لبعضها، مثل التلوث البيئي، حيث تراجعت نسب التلوث في المدن الكبرى وخاصة بكين بشكل كبير جدا. ومحاربة الفساد، حيث تستمر الصين في اعتماد سياسات صارمة في هذا المجال يطلق عليها سياسة «ضرب النمور والذباب، واصطياد الثعالب». والتحديات الديموغرافية التي أُخذ سنة 2015 قرارا تاريخيا لمواجهتها من خلال إلغاء «سياسة الطفل الواحد"، إلا أن التحديات لا تزال كبيرة في هذا الإطار. هذا بالإضافة إلى قضايا مستجدة لم تكن مطروحة أمام المؤتمرات الحزبية السابقة، مثل سياسة «صفر إصابات» المعتمدة لمواجهة فيروس كورونا، والتي يتم من خلالها تنفيذ إجراءات صارمة جدا، أدت خلال السنتين الماضيتين إلى إغلاق عشرات المدن الكبيرة والصغيرة، وكان آخرها شانغهاي. لذا، يُعتقد على نطاق واسع بأنه سيخرج توصيات من المؤتمر تدعو إلى إعادة تقييم الوضع الحالي، واتخاذ قرارات تسهم في تخفيف تلك الإجراءات.
أما ما يهمنا الإضاءة عليه أكثر فهو موضوع «الرخاء المشترك». فبالعودة إلى مقولة دينغ، يمكن القول إن القسم الأول من رؤيته قد تحقق، أي "سيتم السماح لبعض المناطق والأشخاص بتحقيق الثراء أولا"، فمنذ إطلاق سياسة «الإصلاح والانفتاح» حققت الكثير من المناطق والأفراد ثروات كبيرة أدت إلى اتساع الفجوة في الدخل والثروة في الصين، فنسب عدم المساواة وصلت إلى مستويات حساسة إن كان بين الأفراد أو بين المناطق. وهنا يقول لي غوان مين، أحد كبار الباحثين الاقتصاديين في جامعة «تشينغداو»، أن الجانب الآخر من سياسة «الإصلاح والانفتاح» الجديدة سيركز على الإصلاح في مجال عدم المساواة في الصين.
إذن، يطرح أمام المؤتمر العشرين مهمة الانتقال لتحقيق النصف الثاني من مقولة دينغ، «حتى يتمكنوا من مساعدة الآخرين على تحقيق الرخاء المشترك تدريجيا». ففي حال لم يتم تفعيل سياسات تؤدي إلى تقليص الفجوة في توزيع الدخل والثروة، وبالاستناد إلى التجربة التاريخية لعدم المساواة، قد تواجه الصين في المستقبل حالات من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهذا ما يفسر الاهتمام البالغ الذي أولته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني منذ العالم 2018 لمسألة عدم العدالة وفجوة الدخل، فطرحت سلسلة من المبادئ التوجيهية والسياسات لحل هذه المشكلات، وعلى رأسها سياسة «الرخاء المشترك»، والتي يمكن اختصارها بأن على المناطق والأفراد الذين حققوا الثراء خلال السنوات الأربعين الماضية، أن يساهموا في مساعدة المناطق الأخرى في الصين على تحقيق الرخاء.
على الرغم من أن الجلسة الكاملة الخامسة للجنة المركزية التاسعة عشرة للحزب طرحت في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2020 خطة بعيدة المدى لتحقيق «تطورات فعلية نحو الرخاء المشترك لكل الشعب» بحلول عام 2035، إلا أن نقاشا واسعا يدور في الصين حول ما إذا كان قد حان الوقت لتطبيق سياسة «الرخاء المشترك». فالكثير من الأكاديميين الصينيين يعتبرون أن الوقت لم يحن بعد، أما قادة الحزب فقد بدأوا فعليا تنفيذ وتجربة السياسات المتعلقة بتحقيق "الرخاء المشترك"، وخلال السنوات الثلاثة الماضية تم تجربة هذه السياسات في مقاطعة زيجيانغ، وحققت نتائج مبشرة لجهة تخفيض الفجوة في الدخل والثروة بين المناطق الريفية والحضرية (تعتمد الصين دائما أسلوب تجربة السياسات الجديدة، فإذا نجحت يتم تعميمها على باقي المحافظات، وهذا تحديدا ما حصل مع سياسة «الإصلاح والانفتاح» التي جربت أولا في مدينة شينجن، ومن ثم تم تعميمها).
هذا الاختلاف بوجهات النظر بدأ يظهر بشكل أكبر في الأشهر الأخيرة، وخاصة بعد أن طلب من العديد من الشركات الكبيرة وعلى رأسها «علي بابا» و«تانسانت» أن تساهم في هذه السياسة، بصفتها من أكثر الشركات التي حققت ثراء في السنوات الماضية. يقول الكاتب ذو خين في مجلة «South China Morning Post» أن على القادة في المؤتمر العشرين أن يمدوا يدهم للرأسماليين الصينيين، في إشارة واضحة إلى عدم قبوله بسياسة الرخاء المشترك. أما الرئيس الصيني، وعلى الرغم من أنه من أكثر المتحمسين لهذه السياسة، إلا أن كلمته أمام المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2022، قرأ فيها أنها قد تكون تطمين للرأسماليين الصينيين، أو أقله محاولة إقامة توازن في ظل الأوضاع الاستثنائية التي يمر بها الاقتصاد الصيني والعالمي، حيث قال «إن سعي الصين إلى الرخاء المشترك لا يعني اللجوء إلى المساواتية، بل يعني جعل «الكعكة» أكبر، ثم تقسيمها بصورة جيدة من خلال الترتيبات المؤسسية المعقولة، شأنه شأن صعود قارب على المياه الصاعدة، بما يعود بفوائد التنمية على كافة أبناء الشعب بشكل أكثر إنصافا».
يبقى لنا أن ننتظر نتائج المؤتمر لنعرف المسار الذي ستسير فيه الصين على هذا المستوى. مع الإشارة إلى أن السياسات الصينية لطالما كانت إشكالية لأن الكثير من المحللين لا يأخذون بالاعتبار الخصائص الصينية، والتي هي مفتاح أي نقاش لفهم الصين. تحديات كثيرة تطرح امام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، والمقررات التي ستصدر عنه ستحدد مصير الصين، ولن نبالغ إن قلنا مصير النظام العالمي.