«نهاية مرعبة أفضل من رعب بلا نهاية»؛ مثل فرنسي
الخطاب الذي ألقاه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في الكرملين خلال مراسم توقيع انضمام أربع مناطق جديدة لروسيا الاتحادية، هو الأهمّ والأشمل منذ اندلاع المواجهة الدولية بين بلاده، وبين حلف «الناتو» على الساحة الأوكرانية، لجهة توضيح خلفياتها التاريخية والجيوسياسية، وتحديد ما يمكن روسيا أن تقبل أو لا تقبل به. وفي عُرفه، فإن هذه المواجهة تندرج في سياق الصراع الطويل الأمد بين غربٍ يجهد لتأبيد هيمنته الممتدّة منذ قرون على المعمورة، وتَوْق بقيّة شعوبها إلى التحرُّر والانعتاق. وبعد استعراضه المخطّطات والمساعي الغربية، منذ عام 1991، لتفتيت روسيا وتحويلها إلى شعوب متحاربة، والإجهاز على مرتكزات هويّتها وخصوصيّتها الحضارية، جزم بأن الأخيرة ستكسر الهجمة التي تتعرّض لها وستستعيد كافة أراضيها وتحمي شعبها بكلّ ما تملك من وسائل، وستسرّع عملية الانتقال إلى حقبة جديدة متعدّدة الأقطاب تحافظ فيها الدول على استقلالها وحقّها في التنمية.
اللافت هو أن هذا الخطاب جاء في مرحلة لم يَعُد فيها المحلّلون الغربيون يتردّدون في الحديث عن تفكُّك روسيا كأحد الاحتمالات الواردة في حال هزيمتها في الحرب. يرجّح بعضهم، كالخبير «المرموق» روبرت كابلان، رئيس قسم الجيوسياسة في «معهد أبحاث السياسة الخارجية»، في مقال بعنوان «روسيا، إيران ومخاطر ما بعد الأتوقراطية» على موقع «بروجيكت سنديكايت»، هذا السيناريو بعد الهزيمة وانهيار «منظومة بوتين». ربّما لا يعي هؤلاء خطورة الترويج لمثل هذه «التوقّعات»، التي تعبّر عن آمالهم في الحقيقة، والتي تزيد من رسوخ قناعة القيادة الروسية بأن القوى الغربية تسعى إلى تدمير بلادها عبر تطويقها واحتوائها. إضافة إلى ذلك، فإن غاية الغرب الفعلية، بنظرها، لا تقتصر على إزاحة روسيا من الساحة الدولية كمنافس فقط، بل تفكيكها والسطو على ثرواتها الهائلة في ما بعد. هذه القناعة تفسّر انتقال فلاديمير بوتين من الدعوة إلى عالمٍ خال من الأسلحة النووية في 10 حزيران 2009، خلال لقائه وزير الخارجية الألماني آنذاك، فرانك والتر شتاينماير، إلى تبنّي عقيدة عسكرية تُعيد إدخال السلاح النووي الاستراتيجي والتكتيكي كأداة ردع للتهديد المتمثّل بسعي «الدوائر الإمبريالية الغربية إلى السيطرة على المصادر الوطنية الروسية، وإلى تجريد روسيا من مخالبها وقوّتها لجعلها جائعة وعاجزة كالدب المقيّد»، كما صرح في 18 كانون الأول 2014. كشفت الحرب الأوكرانية حقيقة هذه المساعي الغربية للجميع. راغدة ضرغام، في مقال على موقع «ذي ناشيونال»، نسبت إلى خبير في مجلس الأمن القومي الأميركي، قوله إن «هزيمة روسيا ستفقد بكين شريكاً استراتيجياً على المستويَين الميداني والنفسي. هي تعني أيضاً أن الصين ستُحرَم من المنطقة العازلة التي تشكّلها روسيا، وستقف مباشرة على الخطّ الأمامي في مواجهتها مع الولايات المتحدة». أياً تكن الحسابات التي تدفع واشنطن إلى العمل على تدمير روسيا، فإن الأخيرة لن تقف مكتوفة الأيدي. الإصرار الغربي على تهديد بقائها كأمّة، سيفتح أبواب الجحيم النووي.

نحو احتدام الحرب
خيال القادة الغربيين، وجيوش المستشارين والخبراء المحيطين بهم، محدود. هم لا يملكون، في المجابهة الراهنة مع روسيا، سوى نموذج نجاح واحد يسعون إلى تكراره، وهو النموذج الأفغاني، مع الاختلاف الكبير في الظروف الدولية والإقليمية المحيطة، وفي حجم الدعم المقدَّم إلى الوكلاء المحليّين، أي المجاهدين الأفغان في الماضي، ونظام كييف حالياً. يفترضون أن ما أفضى في السابق إلى هزيمة الاتحاد السوفياتي، ومن ثم انهياره، أي الحرب بالوكالة، سيعطي نفس النتائج مع روسيا. الاختراق العسكري الناجح الذي أنجزته القوات الأوكرانية، أَطلق العنان لتحليلاتهم حول الانهيار الروسي الوشيك. ما يغيب عن بال هؤلاء، هو الفارق الكبير بين موقف القيادة السوفياتية من أفغانستان، ناهيك عن الأوضاع العامّة للاتحاد السوفياتي آنذاك، وبين موقف القيادة الروسية اليوم من حرب باتت تدور على أراضيها، بعد الاستفتاء الذي حصل في المناطق الأوكرانية الأربع، خيرسون وزاباروجيا ودونيتسك ولوغانسك، والذي سيقود إلى ضمّها إلى روسيا. رَفْضُ نظام كييف ورعاته الغربيين الاعتراف بنتائج الاستفتاء المذكور، لا يغيّر من الأمر في شيء. بالنسبة إلى القيادة الروسية، أصبحت أراضيها تتعرّض للعدوان، ما يعني أن جميع الخيارات مطروحة.
بالنسبة إلى القيادة الروسية، أصبحت أراضيها تتعرّض للعدوان، ما يعني أن جميع الخيارات مطروحة


بالنسبة إلى مسار الصراع العسكري، يرى مايكل كلير، الخبير الأميركي في الشؤون الاستراتيجية، في مقال على موقع «ذا نايشن»، أن «ما يمكن أن نتوقّعه هو شنّ الأوكرانيين هجمات جديدة في الشمال والجنوب، بعد النجاحات التي حقّقوها في خاركيف، وتكثيف ضغوطهم على القوات الروسية في محيط خيرسون، في الجنوب. الروس، من جهتهم سيرسلون المزيد من القوات إلى الجبهة، وسيستخدمون تفوّقهم الناري لإلحاق أكبر الخسائر بالقوات الأوكرانية المهاجمة... ستسعى القيادة الأوكرانية إلى الحصول على صواريخ «أتاكمس» التي يصل مداها إلى 190 ميلاً، ما يتيح لها استهداف مواقع في جزيرة القرم وداخل الأراضي الروسية، وصواريخ «هيمارس» التي يصل مداها إلى 50 ميلاً، والتي لعبت دوراً هاماً في نجاحاتها العسكرية». يعتقد كلير أن تجاوب الإدارة الأميركية مع المطالب الأوكرانية، سيسعّر الحرب بشكل غير مسبوق، وسيحمل القيادة الروسية على اللجوء إلى المزيد من القوّة، عبر قصف المدن والبنى التحتية الأوكرانية بصواريخ «كروز». استمرار الغرب بضخّ السلاح والإشراف المباشر على إدارة المعركة، إذا ما أدّى إلى انتكاسات روسية جديدة، سينجم عنه ردٌّ أشدّ عنفاً من قِبَل موسكو. في خطابه، في الـ21 من أيلول، أعلن الرئيس الروسي - لمَن يهمّه الأمر - أن بلاده «تمتلك أنواعاً مختلفة من الأسلحة، وبعضها أكثر تقدُّماً من تلك التي بحوزة دول الناتو. في مواجهة تهديد الوحدة الترابية لبلادنا، وللدفاع عن روسيا وشعبها، سنستخدم بكلّ تأكيد جميع منظومات السلاح المتوافرة لدينا. هذا ليس مزاحاً». وعلى عكس بقيّة القادة الغربيين الذين تعاملوا باستخفاف مع كلام الرئيس الروسي، نصحت المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، والتي تَعرف بوتين جيّداً، هؤلاء القادة بأخذ ما يقوله على محمل الجدّ. لن تقبل القيادة الروسية بهزيمة على أراضيها، واللجوء إلى ضربة نووية تكتيكية، كخيار أخير، لصدّ المهاجمين، لم يَعُد مجرّد فرضيّة نظرية.

حافة الجحيم
ما الذي سيقوم به القادة الغربيون في حال إقدام روسيا على ضربة نووية تكتيكية في أوكرانيا؟ الشجب والإدانة، والمزيد من العقوبات وإجراءات العزل بحقّ روسيا، وشحنات ضخمة من الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا، هي جميعها خطوات متوقّعة من قِبَلهم. أمّا التورّط بحرب نووية مع روسيا لأجل الأوكرانيين، فمسألةٌ فيها نظر. في مقابلة على موقع «دير شبيغل» في 20 أيار الماضي، اعتبر غراهام أليسون، المؤرّخ الأميركي البارز، ومساعد وزير الدفاع الأميركي في عهد كلينتون، ومؤلّف كتاب هامّ بعنوان «محكومون بالحرب: هل تستطيع أميركا والصين تجنّب فخ توسيديد؟»، أنه في حال استخدام روسيا لسلاح نووي تكتيكي في أوكرانيا، فإن «الناتو لن يرد بالمثل، أي باللجوء إلى أسلحة نووية تكتيكية. لكنك لا تستطيع ألا تقوم بعمل دراماتيكي. إذا استهدفنا مواقع انطلاق الصواريخ في روسيا، سيكون الأميركيون قد قتلوا روساً، وندخل في مسار مجابهة قابلة للتدحرج نحو ما هو أسوأ. هذا السيناريو جنوني إلى درجة أن غالبية الناس يفضّلون عدم التفكير به». الواقع هو أن السيناريو الجنوني هو تصوّر إمكانية وضْع مخطّط يرمي في آخر المطاف إلى تدمير روسيا، موضع التنفيذ، وتخيُّل أنها لن تتصدّى له بكل ما أوتيت من قوة. يعتقد «الغرب الجماعي» أنه سيفلَح في إدامة هيمنته التاريخية المديدة، والقضاء على خصومه من خلال حروب بالوكالة واستراتيجيات الاحتواء وزعزعة الاستقرار، لكنّه يجد نفسه اليوم أمام مَن لا يخشى الصدام المباشر معه دفاعاً عن بقاء بلاده. الحرب على أراضي روسيا ليست مزاحاً، ونهايتها قد تكون مرعبة ليس للأوكران وحدهم!