لندن | في استعراض أخير للقوّة قبل الانتخابات العامّة الاستثنائية في إيطاليا هذا الأحد، ظهرت جورجيا ميلوني، زعيمة «حركة الإخوة الإيطاليين»، وصاحبةُ الحظّ الأوفر في تولّي منصب رئاسة الوزراء، برفقة ماتيو سالفيني، زعيم «حزب الرابطة»، وسيلفيو بيرلسكوني، زعيم «حركة فورزا إيطاليا»، في حشد انتخابي كبير، حيث قدّم هؤلاء أنفسهم للجمهور الإيطالي القلِق من مصاعب ارتفاع كُلف المعيشة، كجبهة يمينيّة موحّدة، تبدو -وفق استطلاعات الرأي - المرشّح الأوّل لتولّي إدارة البلاد في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ أوروبا والعالم، في ظلّ المواجهة الأميركية - الروسية المتصاعدة. ويخشى كثيرون من أن تلتحق روما، نتيجة لتلك الانتخابات، بكتلة دُول وسط أوروبا، والتي باتت تسيطر عليها تيّارات يمينية متطرّفة تثير المتاعب للبيروقراطيين الليبراليين داخل الاتحاد الأوروبي، في وقت تبدو فيه روما وبروكسل بحاجة إحداهما إلى الأخرى أكثر من أيّ وقت مضى
تَعتبر ميلوني نفسه تَعتبر نفسها وريثة شرعيّة لتراث موسوليني (أ ف ب)

إذا صحّت تنبّؤات استطلاعات الرأي، فستَخرج إيطاليا من الانتخابات العامّة الاستثنائية التي ستَجري يوم الأحد، بحكومة يمينية متطرّفة جديدة تقودها جورجيا ميلوني، زعيمة «حركة الإخوة الإيطاليين»، التي يبدو أنها وحليفها الشعبوي ماتيو سالفيني، زعيم «حزب الرابطة»، في طريقهما إلى تحقيق انتصار حاسم على يسار الوسط المنقسم بشدّة، وتولّي تشكيل الحكومة الإيطالية السبعين منذ قيام الجمهورية عقب الحرب العالمية الثانية. وتتمتّع الحركة بتأييد رُبع الجمهور الإيطالي على الأقلّ، وقد تَعزّزت شعبيّتها بشكل كبير جرّاء بقائها خارج حكومة ماريو دراغي المستقيلة، والتي حاولت تبنّي خيارات اقتصادية واستراتيجية لم تحظَ بتأييد عريض. ومن المرجّح الآن أن ائتلافاً يجمع «الإخوة الإيطاليين» و«الرابطة» سيحظى بعدد كافٍ من المقاعد في البرلمان، لنيْل الفرصة لتشكيل أوّل حكومة يمين متطرّف تَحكم البلاد منذ أيّام الديكتاتور الفاشي، بينيتو موسوليني.
وعزّزت الحركة فُرص زعيمتها الشابّة العنيدة، في أن تكون أوّل سيّدة تفوز بمنصب رئيس الوزراء في الجمهورية، بعدما وضعت مآخذها على سيلفيو بيرلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق جانباً، وشكّلت مع حزبه «فورزا إيطاليا» (إيطاليا إلى الأمام)، إضافة إلى «الرابطة»، ائتلافاً يمينياً عريضاً يُفترض أن يكون قادراً على منْح حكومة ميلوني المحتمَلة منصّة استقرار سياسي تسمح لها بقيادة البلاد لخمس سنوات مقبلة. وظهرت ميلوني (الخميس) في استعراض أخير للقوّة قبل الانتخابات، برفقة سالفيني وبيرلسكوني، أمام حشد انتخابي كبير، حيث قدّم هؤلاء جميعاً أنفسهم للجمهور الإيطالي القلِق من مصاعب الارتفاع الجنوني في كُلف المعيشة، كجبهة يمينيّة موحّدة «قادرة على أن تُعيد للإيطاليين مجدهم» - على حدّ تعبير ميلوني -.
ومع أن توقّعات المراقبين تقول بأن هذه الانتخابات ستشهد إقبالاً جماهيرياً متدنّياً بسبب فقدان كثير من الإيطاليين الثقة بمجمل العملية السياسية في البلاد، إلّا أن عواصم كثيرة ستترقّب إعلان النتائج المُتوقَّع يوم الإثنين. ويخشى البيروقراطيون الليبراليون في المفوّضية الأوروبية (حكومة الاتحاد الأوروبي) من أن تلتحق روما، نتيجة لهذه الانتخابات، بكتلة دُول وسط أوروبا (بولندا وهنغاريا والتشيك)، والتي باتت تسيطر عليها تيّارات يمينية متطرّفة طالما أثارت الصخب داخل الاتحاد الأوروبي، وهدّدت في غير مِفصل وَحدة تَوجّهاته الاقتصادية والسياسية. وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، لا ترغب الإدارة الديموقراطية للولايات المتحدة في رؤية فيكتور أوربان آخر - الزعيم الهنغاري اليميني - يشاغب داخل التحالف الذي تقوده في «حربها العالمية» على روسيا. وكان أوربان، الذي تحظى حكومته بأغلبية مطلقة في بلاده، نجح في فرض إرادته غير مرّة للحصول على استثناءات من سلسلة العقوبات المتلاحقة التي فرضتها بروكسل وواشنطن على موسكو.
تستند التيّارات المتطرّفة إلى تأييد واسع من بوّابة وعودها بتقديم بديل عملي للحكومات الليبرالية


ولا تجد الولايات المتحدة أيّ محاذير إيديولوجية في التعامل مع حكومات يمينيّةِ التوجه، وهي تاريخياً مكّنت اليمين بتلاوينه من الهيمنة على السلطة والنفوذ عبر القارّة الأوروبية. إلّا أن هذه التيّارات المتطرّفة، شعبوية الطابع، تستند الآن إلى تأييد واسع من بوّابة وعودها بتقديم بديل عملي لحكومات النُّخب الليبرالية - بعدما أَظهرت الأخيرة فشلاً ذريعاً في إدارة مترتّبات الأزمة الاقتصادية العالمية التي تعمّقت نتيجة الصراع الأميركي - الروسي المفتوح على الملعب الأوكراني -، وهي مضطرّة إلى محاولة إرضاء جمهورها عبر رفض إخضاعه لسياسات إفقار وتهميش وسلب أقدمت على انتهاجها تلك الحكومات خدمةً لانخراطها في المجهود الحربي العسكري والاقتصادي ضدّ روسيا. وهذا بالطبع، قد يتسبّب بصُداع إضافي للأميركيين، الذين يريدون التزاماً حديدياً داخل التحالف المناهض للروس.
من جهتها، تُتابع موسكو الانتخابات الإيطالية باهتمام؛ إذ من المعروف أن سالفيني، المرشّح للعِب دور قويّ في المشهد السياسي الإيطالي خلال الفترة المقبلة، كان قبل الحرب على أوكرانيا من أشدّ المعجبين بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وهو مدعوم بمصالح اقتصادية نشأت على أساس تموضُع إيطاليا كجسر يربط أوروبا بروسيا والصين. وقد جأر سالفيني بالشكوى علناً خلال حملته الانتخابية من الخسائر التي تسبّبت بها العقوبات ضدّ روسيا للاقتصاد الإيطالي، ونُقل عنه قوله: «لقد اختارت أوروبا فرض عقوبات بعد الحرب. هذا جيّد، لكن لا يمكن دفع ثمن العقوبات من قِبَل العائلات والشركات الإيطالية». كما خطاب سالفيني أنصاره بالقول: «إن التدابير التي فرضتها أوروبا ضدّ موسكو لا تؤثّر في أولئك الذين أطلقوا العنان للحرب - بوتين كما الوزراء والأوليغارشية والجنرالات الأوروبيين -. إن مَن يدفع تكلفة العقوبات الباهظة هو أنتم». أمّا ميلوني، التي بدأت مسيرتها السياسية كناشطة مراهقة في الجناح الشبابي لـ«الحركة الاجتماعية الإيطالية» الفاشية الجديدة، وتَعتبر نفسها وريثة شرعيّة لتراث موسوليني، فهي شخصية نارية لا تخشى التعبير عن رأيها، وقد وصفت بيروقراطيي بروكسل بأنهم «عملاء للنُّخب العالمية العدمية التي يقودها التمويل الدولي»، ولم تستبعد إعادة النظر في مبدأ استخدام اليورو - العملة الأوروبيّة الموحّدة -، على رغم أنها تعهّدت بمُواصلة سياسات حكومة دراغي المنتهية ولايتها لناحية دعم أوكرانيا عسكرياً، والتشدّد بشأن العقوبات المفروضة على روسيا. وبين هذه وذاك، يَبرز بيرلسكوني، «تايكون» المال والإعلام العائد إلى السياسة الإيطالية بعد غياب، والذي يكاد يمثّل مدخل بروكسل الوحيد إلى الائتلاف المتوقَّع له أن يَحكم روما ابتداءً من الأسبوع المقبل، وذلك بحُكم علاقاته القديمة بالنُّخب الليبرالية الأوروبية، وتاريخه التوافقي مع المفوّضية أيّام ولايته.
وتبدو كلّ من روما وبروكسل، الآن، بحاجة إحداهما إلى الأخرى، أكثر من أيّ وقت مضى. ومن هنا، يمكن ترجيح تَواري الحسابات الإيديولوجية للائتلاف اليميني الثُّلاثي، عندما تخوض حكومة قد يؤلّفها، الاختبارات الحقيقية لتولّي السلطة، إذ تعتمد إيطاليا على حُزمة دعم من الاتحاد الأوروبي بقيمة 200 مليار يورو للمساعدة في إعادة إنعاش اقتصادها الضعيف، وهي تُواجه استحقاقات حاسمة حول استدامة ديونها السيادية التي تبلغ قيمتها نحو 3 تريليونات دولار، ويتعيّن عليها الامتثال لالتزاماتها أمام الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الإصلاحات الهيكلية التي وعدت بها كجزء من برنامج التعافي من «كوفيد 19»، إنْ أرادت الاستفادة من خطّة جديدة لشراء السندات الحكومية من البنك المركزي الأوروبي، تهدف إلى الحفاظ على تكاليف الاقتراض من التصاعد. ولذا، فإن الحكومة الجديدة ستضطرّ، على الأرجح، إلى مجاراة القوى الأوروبية الرئيسة، مِن مِثل فرنسا وألمانيا، فيما يُتوقّع أن يكبح موقفُها الاقتصادي المتذبذب جماح تَوجّهاتها التصادمية. وفي الوقت نفسه، فإن بروكسل تظلّ مُعوِزةً إلى دعم إيطاليا - ثالث أكبر اقتصاداتها حجماً - في نسْج استجابة منسَّقة لظروف ساحة المعركة المتغيّرة مع روسيا، في وقت يحاول فيه التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة إحكام الحصار الاقتصادي على الأخيرة، وآخر وجوهه تحديد سقف لأسعار النفط.
إذاً، على الأغلب، ستستيقظ روما، صباح الإثنين، على حكومة تَقودها سيّدة آتية من قلْب ثقافة اليمين المسيحي المحافظ الفاشي، يدعمها ائتلاف شعبوي لا يكنّ وداً لبروكسل. لكنّ السياق الكلّي للحدث العالمي لا يسمح بالكثير من «العبث الإيديولوجي»، حيث ستراقب بروكسل - وواشنطن أيضاً - بتمعّن كلّ خطوة ستُقدم عليها تلك الحكومة العتيدة. وما لم تكن الأخيرة مستعدّة لجرّ إيطاليا نحو إفلاس ماليّ تام، فليس لها إلّا أن تمشي في الدرب الذي اختطّه دراغي في رحلته (حزيران الماضي) على متْن قطار أخَذه مع قادة فرنسا وألمانيا إلى كييف. فهل سنرى تالياً ميلوني في ضيافة فولوديمير زيلينسكي - الرئيس الأوكراني -؟ هي مسألة أيام لا أكثر.