موسكو | يُثار، منذ انطلاق العمليات الروسية في أوكرانيا، سؤال حول ما إذا كان الحدث الذي بدأ بـ«عمليّة عسكرية»، سينتهي إلى حربٍ عالمية ثالثة، بالنظر إلى أن البلد الذي يتلقّى الضربات واقع على تخوم العالم الغربي، وأن هذا الأخير بات طرفاً في المواجهة. ومع دخولها شهرها الثامن، هناك أسباب موجبة للاعتقاد بأن الحرب «الكونيّة» أصبحت أمراً واقعاً - والتقدير لألكسندر دوغين - ينبغي التعامل معه، بعدما دُفِعت روسيا إليه دفعاً، بفعل عوامل كثيرة، أبرزها إصرار الولايات المتحدة على كسْر شوكتها وهزيمتها والفوز بأيّ ثمن، حتى وإنْ كان ذلك سيعني تسيُّدها عالماً مدمّراً يعمّه الخراب
ليس ثمّة مَن يعتزم الاستسلام في الحرب الدائرة بالنيابة بين روسيا والغرب، بعدما بلغت من التصعيد مبلغاً لم يَعُد ممكناً معه التراجع. مستبشراً بالإنجازات التي حقّقتها قواته أخيراً حول خاركيف، على الجبهة الجنوبية، وضع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الذي خاطب قادة العالم المجموعين في الأمم المتحدة، خمسة شروط «غير قابلة للتفاوض» لـ«سلام» يريده على مقاس مصالحه ومصالح حلفائه، فيما كانت روسيا التي دعا رئيسها، فلاديمير بوتين، إلى تعبئة عسكرية جزئية، أي توسيع العملية العسكرية إلى حربٍ شاملة، قد سبقته بالتلويح بالخيار النووي، وهو ما يمثّل، وفق محلّلين غربيّين، محاولةً من جانبها للضغط على أوكرانيا ومِن ورائها الولايات المتحدة، للاستسلام. إزاء هذا «الجنون» المنفلت من عقاله، لا تفتأ أميركا - بصفتها الطرف الآخر في المواجهة - تسعّر الحرب بشتّى الأدوات والوسائل، وتشجب، كما جاء على لسان رئيسها، جو بايدن، أمام المحفل الدولي المنعقد في نيويورك، «الانتهاكات» التي يتعرّض لها النظام الدولي على أيدي الروس.
في واقع الحال، لا ينقسم العالم بالتساوي إزاء الحرب، لكنه يقف متساوياً، اليوم، على بُعد خطوةٍ من حربٍ عالمية ثالثة، بشّر المفكّر والمؤرّخ الروسي، ألكسندر دوغين، بأنها أصبحت «حقيقة» ينبغي التعامل معها، بعدما دُفعت إليها روسيا دفْعاً. وهو إذ يعتبر أن انهيار الاتحاد السوفياتي وما استتبعه من تبنّي روسيا الأيديولوجية الليبرالية الغربية، لم يخدم سوى مصالح الغرب، يدعو، في هذا الظرف، إلى «تحديد أيديولوجية، جوهرها الرفض القاطع والمباشر لتلك الغربية»، بكلّ أنواعها وأدواتها. وينطلق في تقديره هذا وموقفه الحاسم من كون الغرب نفسه أعلن الحرب على روسيا، والتي شكّل الهجوم المضادّ للقوات المسلحة الأوكرانية في خاركيف، شرارتها الأولى. بذلك، باتت روسيا وجميع مواطنيها في حالة حرب، نظراً إلى «عمل العدو على تركيعها واستسلامها بالكامل واحتلالها؛ ليس لدينا اليوم خيار غير الاستمرار في هذه الحرب»، لأن «نهاية العملية العسكرية الروسية الخاصة تفترِض حدوث تحوّلات عميقة في النظام السياسي والاجتماعي بأكمله لروسيا الحديثة واستعداد البلاد للدخول في مواجهة على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي وفي مجال المعلومات». ويلفت دوغين إلى أهمية التعبئة، بوصفها تقوم على «تغيير سياسة المعلومات بشكل عام، وإلغاء معايير زمن السلم، وتسخير التلفزيون ووسائل الإعلام لتصبح أدوات وطنية للتعبئة في زمن الحرب (...) تستطيع جميع الدول ذات السيادة طباعة القدْر اللازم من العملة الوطنية، ففي ظروف الحرب ضدّ الغرب، من غير المجدي مواصلة التعامل معه وفقاً لقواعده»، إذ هو أَظهر عزمه على شنّ ما وصفها بـ«حرب إبادة» ضدّ روسيا، معلناً بذلك «انطلاق الحرب العالمية الثالثة، وهو الواقع الذي يفرض استجماع جميع الإمكانات الوطنية، أي القوّة العسكرية والاقتصادية والثقافية والتعبئة الداخلية لجميع هياكل الدولة».
في ظلّ إصرار النُّخب الغربية على ضرورة مواصلة الحرب «بأيّ ثمن»، يصبح تقدير دوغين أقرب إلى واقع الحال


أمام انسداد أفق أيّ حلّ، وغياب المبادرات التي من شأنها لجْم الاندفاعة الغربية، يَبرز التهديد النووي باعتباره احتمالاً، يقول بعض المحلّلين، ينبغي أخذه على محمل الجدّ، إن كان تكتيكياً - من شأنه تغيير مسار معركة وليس حرباً، كما يورد جورج فريدمان -؛ أو استراتيجياً - يستبعده الكاتب لجملة أسباب من بينها أنه سيلحق ضرراً هائلاً بروسيا، إذا ما قرّرت ضرب أوكرانيا المتاخمة لحدودها -. يمكن الرئيس الروسي أن يلجأ إلى هذا الخيار لـ«قلْب دفّة المعركة»، في ظلّ محدوديّة خياراته، وفق تقدير ماثيو كروينيغ في «المجلس الأطلسي». ويعيد هذا الأخير التأكيد أن الهدف النهائي لواشنطن وكييف هو «كسْب الحرب، وليس تجنُّب هجوم نووي بأيّ ثمن»، داعياً بايدن وزيلينسكي إلى «عدم التراجع لتجنُّب هجوم نووي. يجب أن يضاعفا جهودهما للفوز بالحرب، مع ردع الاستخدام النووي». وبحسب أندري زاغورودنيوك، في المعهد نفسه، فإن التعبئة التي أعلنها بوتين، «لن تُصلِح إخفاقات روسيا في ساحة المعركة، بل هي علامة على فشلها في تحقيق أهدافها العمليّاتية في أوكرانيا، فضلاً عن كونها مؤشّراً مهمّاً على إنهاك الجيش الروسي، واعترافه بعدم قدرته على هزيمة أوكرانيا... لا أعتقد أن هذا الوضع سيتغيّر كثيراً مع التعبئة (...) أعتقد أنها محاولة تصعيد أخرى فاشلة لبوتين. أوكرانيا ستواصل معركتها مهما حدث. بالطبع، إرسال المزيد من الأفراد سيعني اشتداداً محتملاً للحرب. نشجّع حلفاءنا على مواصلة تزويد أوكرانيا بالأسلحة والذخيرة. سوف نفوز بهذا معاً».
في ظلّ إصرار النُخب الغربية على ضرورة مواصلة الحرب «بأيّ ثمن»، يصبح تقدير دوغين أقرب إلى واقع الحال، وخصوصاً وسط الدعوات المتزايدة إلى رفض الولايات المتحدة وحلفائها «الانصياع للابتزاز النووي»، والقول لألكسندر فيرشبو في «المجلس الأطلسي»، الذي يشير إلى أن «الاستفتاءات الزائفة لن تغيّر حقيقة أن جميع الأراضي المحتلّة، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، تظلّ أوكرانية بموجب القانون الدولي، وأن أوكرانيا لها الحقّ في استعادة كامل أراضيها السيادية. أيُّ حلٍّ وسط، كما أكد الرئيس الأميركي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، يعني التصديق على تغيير الحدود بالقوّة». لكن اللجوء إلى الخيار النووي، دونه الكثير من المحاذير. في هذا الإطار، يناقش فريدمان أن الأسلحة النووية التكتيكية، على أهميّتها، تسفر عن القليل من التداعيات النووية، ويمكنها أن تحدّد نتيجة المعركة وليس الحرب. لذلك، فإن الخيار النووي الآخر لروسيا، استراتيجي، أي تدمير المدن الأوكرانية بسلاح من نوع ذاك الذي استُخدم في هيروشيما. ولهذا الخيار، بحسبه، نقطتا ضعف: الأولى، اتجاه الرياح، على سبيل المثال فإن الرياح في شرق أوكرانيا تتّجه نحو الشمال الشرقي، وقد يؤدّي أيّ تفجير نووي استراتيجي إلى تداعيات على روسيا؛ والثانية، تتعلّق بردود الفعل الغربية، إذ تمتلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا أسلحة نووية استراتيجية، وقد يرى أيّ منها الضربة الروسية لأوكرانيا كتهديد محتمل لها، وهو ما سيؤدي إلى نقاش حول ضرورة الردّ بالمثل. وبالنظر إلى القيمة المحدودة للأسلحة النووية التكتيكية والكارثة المحتملة للأسلحة النووية الاستراتيجية، فإن تهديدات روسيا النووية لا تعدو كونها «حرباً نفسية لا تستطيع حلّ مشكلتها العسكرية».