لندن | يخطّط سيلفيو برلسكوني، الملياردير وقطب العقارات والإعلام ورئيس وزراء إيطاليا لثلاث مرّات، لعودته إلى المشهد السياسي في البلاد، مستغلّاً فترة الاختلال التي أعقبت تفكُّك التحالف الحاكم واستقالة حكومة ماريو دراجي الشهر الماضي. ويأتي ذلك فيما يُنتظر أن يدلي الناخبون الإيطاليون بأصواتهم في انتخابات عامّة مبكرة في 25 أيلول المقبل، يُخشى على نطاق واسع من أنها ستعيد الجمهورية إلى سيرتها التقليدية في قِصر عمر الحكومات، نظراً إلى تشتُّت اتّجاهات التصويت بين العديد من القوى. والأكيد أن أيّاً من الأحزاب لن يتمكّن من الانفراد بتشكيل الحكومة، ما سيفرض ضرورة تشكيل تحالف من ثلاث قوى على الأقلّ للحصول على ثقة البرلمان. وفي حال تنفيذ برلسكوني لخططه، فمن المرجّح أن ينتهي إلى موضع يكون فيه بمثابة بيضة القبّان وصانع الملوك، لناحية حسم شكل التحالفات اللازمة لتشكيل الحكومة، ما سيمنح الرجل الثمانيني المخضرم خمسة أعوام أخرى من التأثير والنفوذ. وبحسب أحدث استطلاعات الرأي، فإن حزب «فورزا إيطاليا» (إيطاليا إلى الأمام) الذي يقوده برلسكوني، قد يحصل على حوالي 8% من مجموع الأصوات في الانتخابات المقبلة، وهي نتيجة قد لا تكون مثيرة للاهتمام، أقلّه عند المقارنة مع 37% حصل عليها في عام 2008، لكنّها في ظل برلمان معلَّق قد تكون ممرّاً لا بدّ منه لأيّ ائتلاف يريد الحصول على ثقة برلمانية لتولّي السلطة، سواءً من قوى اليمين أو من قوى يسار الوسط.  وظلّ برلسكوني لاعباً مؤثّراً في فضاء السياسة الإيطاليّة طوال عقود، إنْ من خلاله إمبراطوريته الإعلامية أو عبر تولّيه تشكيل الوزارات. لكن سمعة الرجل اهتزّت بعد الكشف عن حفلات عربدة ومُجون كانت تجري في مقرّ إقامته الباذخ بالقرب من ميلانو - شمال إيطاليا -. وفي عام 2011، أجبرته أزمة الدَّين الوطني المتصاعدة، والمخاوف من أن إيطاليا قد تعلن إفلاسها، على تسليم السلطة لماريو مونتي التكنوقراطي. وبعد خروجه من السلطة، واجه العديد من الملاحقات القضائية، قبل أن يتمّ طرده أخيراً من مجلس الشيوخ إثر إدانته بالاحتيال والتهرّب الضريبي في عام 2013، ومنعه طوال أربع سنوات من تولّي مناصب عامّة. وفي الفترة القليلة الماضية، أنهكه المرض، وأصبح ظهوره في لقاءات حزبه محدوداً، حيث يكتفي في أغلب الوقت بالحضور افتراضياً، فيما نادراً ما تمكّن من حضور التصويت كنائب عن بلاده في المجلس الأوروبي (برلمان الاتحاد الأوروبي) – منذ 2019 -. 
وكان حزب برلسكوني شريكاً في التحالف الذي قاده ماريو دراجي في الحُكم وتَمثّل فيه بثلاثة وزراء، قبل أن ينضمّ لاحقاً إلى بقيّة شركاء التحالف الذين سحبوا دعمهم للحكومة. ويبدو أنه كان وراء ذلك قلق لدى الأحزاب من فقدان الشعبيّة بسبب السياسات الاقتصادية لدراجي، والتي اعتُبرت غير كافية للتعامل مع الضغوط التضخّمية الهائلة التي تعصف بالأسواق الأوروبية. وبالفعل، فإن «حزب الإخوة الإيطاليين» اليميني المتطرّف غير الممثَّل في السلطة، أصبح الآن أكثر القوى الإيطالية شعبيّةً، ويُعتقد أنه سيحصد رُبع الأصوات على الأقلّ في الانتخابات المبكرة المقبلة. 
عودة برلسكوني ستكون بمثابة عَرَضٍ آخر للمرض العضال الذي يفتك بالنظام السياسي


ومع ذلك، فإن غلبة التيارات الشعبوية اليمينية واليمينية المتطرّفة على توجّهات الإيطاليين طوال العقد الماضي، ستُمكّن برلسكوني من تقديم نفسه للناخبين وللاتحاد الأوروبي أيضاً بوصْفه شخصية معتدلة يمكن الاعتماد عليها مقارنة بطموحات بقيّة السياسيين اليمينيين، وشطحاتهم المتطرّفة. وتخشى بروكسل من سقوط إيطاليا - ثالث أكبر اقتصادات أوروبا بعد ألمانيا وفرنسا - في قبضة اليمين الذي يميل في غير ما بلد أوروبي إلى إثارة المتاعب في وجه خطط الاتحاد الاقتصادية، وكذلك سياساته حول الهجرة، وحقوق الإنسان. ونجحت الأحزاب اليمينية الحاكمة في بولندا والمجر وغيرهما من فرض مطالبهما على التكتّل، بينما كانت المفوضية الأوروبية تحاول بناء جبهة موحّدة ضدّ روسيا في أجواء الحرب على أوكرانيا، وبخاصة في ما يتعلّق بالموقف من إمدادات الطاقة الروسية. ويسود القلق بشأن مستقبل إيطاليا في ظلّ احتمال صعود حكومة يمينيّة قد تكون الأكثر تطرّفاً منذ سقوط الفاشية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ليس بين الإيطاليين فحسب، بل ولدى عدّة عواصم - ولا سيّما بروكسل وواشنطن - خوفاً من تغييرات في تموضع إيطاليا ضمن «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) والاتحاد الأوروبي، والذي كرّسه دراجي بزيارة ثُلاثية له رفقة الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني إلى العاصمة الأوكرانية كييف في حزيران الماضي.
من جهتها، تخشى الأسواق المالية وتجّار السندات والأسهم الإيطالية من انعكاسات سلبية، لناحية قدرة الحُكم الجديد على إدارة الديون السياديّة المتراكمة (تتجاوز حالياً 150% من الناتج المحلّي الإجمالي للجمهورية المرشّحة دائماً للتأهّل للقب رجل أوروبا المريض)، كما عجز الميزانية، وفُرص تقديم برامج مقنعة للحصول على حصّة إيطاليا الضخمة من الصندوق الأوروبي للتعامل مع مترتّبات جائحة «كوفيد 19». ومن الجليّ أنه من دون شخصية موثوقة في المنصب التنفيذي الأهمّ في البلاد، فقد ترتفع تكلفة الاقتراض بشكل دراماتيكي على نحوٍ سيجعل الآفاق الاقتصادية ملبّدة بالتشاؤم، بينما تتّجه أوروبا برمّتها للغرق في لجّة ركود محتّم قد يستمرّ لسنوات. وفي هذا السياق الضاغط، يحاول برلسكوني تقديم نفسه كمنقذ للأمّة، حيث بات يُكثر في مقابلاته من الاعتداد بقدرة حزبه منفرداً من دون القوى الأخرى على دفع عجلة الاقتصاد، وبأن «إيطاليا تحتاج إلي»، «وبهذه الطريقة (أي عودة برلسكوني إلى السلطة) سيكون الجميع سعداء». ولا يخفى بالطبع أن حزب «فورزا إيطاليا» كان جزءاً من التحالف الحكومي المنهار، ما يدفع إلى التوجّس من القيمة الواقعية للوعود الفضفاضة التي سيصرفها برلسكوني للناخبين. 
ويبدو الرجل قادراً بالفعل على إثارة المتاعب للجميع، على الرغم من انحسار شعبيّته مقارنة بأوقات مضت. ويَعتبر مراقبون أن برلسكوني، بدعمه حديثاً مشروعاً مقترَحاً لتعديل النظام الرئاسي يستوجب تبنّيه استقالة الرئيس الحالي سيرجيو ماتاريلا، إنّما كان يدفع لفتح الباب أمام تولّيه هو المنصب بديلاً من ماتاريلا. وإذ نفى برلسكوني ذلك، فإن طموحه لا يمكن إخفاؤه. وهو قد يحاول نيل منصب رئيس مجلس الشيوخ - ثاني أعلى منصب مؤسَّسي في إيطاليا خارج السلطة التنفيذية بعد منصب الرئيس -. ويُصنَّف حزب «فورزا إيطاليا» في إطار الطيف السياسي الإيطالي كحزب يميني، وطالما اتّهمه خصوم زعيمه بالتآمر مع القوى اليمينية المتطرّفة لتفكيك الصيغة القائمة من النظام الديموقراطي في إيطاليا، والانتكاس نحو فاشيّة جديدة. لكن برلسكوني نفى دائماً أن يكون أيّ من الأحزاب في التحالف المستقيل متطرّفاً، مدّعياً أن الائتلاف الحكومي تَشكّل من قوى يمين الوسط لا اليمين المتطرّف، وكرّر على مسامع الأوروبيين حرصه على الديموقراطية الليبرالية والاتحاد الأوروبي و»الناتو»، كما استقصد في تصريحات حديثة إلى الصحافة التنصّل من علاقته الطيّبة مع روسيا و(رئيسها فلاديمير بوتين) في الأزمنة السابقة. 
وأيّاً يكن، فإن عودة برلسكوني في أرذل العمر إلى قلْب المشهد الإيطالي – إن تمّت –، فستكون بمثابة عَرَضٍ آخر للمرض العضال الذي ما انفكّ يفتك بالنظام السياسي في هذه الجمهورية، منذ التأسيس بعد الحرب العالمية الثانية.