قد لا يكون هذا الكتاب، الذي صدر تحت عنوان «مسألة تايوان وإعادة توحيد الصين في الحقبة الجديدة»، الأوّل من نوعه تاريخياً؛ إذ أصدرت بكين الكتاب الأوّل حول تايوان عام 1993، والثاني عام 2000، لكنّ عوامل عدّة محيطة به تُعطيه طابعاً مميّزاً، من ضمنها أنه يأتي في أعقاب زيارتَيْن أميركيتَيْن لتايوان استفزّتا بكين إلى الحدّ الذي جعلها تُجري أوسع تدريبات عسكرية لها تاريخياً في محيط الجزيرة، ووضعتا العالم لوهلة أمام سيناريو حرب شاملة. بيد أنه، وعلى الرغم من تلك التوتّرات، جاء الكتاب ليؤكد التمسّك الصيني الراسخ بالحلّ السلمي لمسألة تايوان، إنّما، هذه المرّة، من دون استبعاد فرضية اللجوء إلى القوّة تماماً، لا بل مع تحديد الظروف التي قد تدفع بكين إلى هكذا خيار. وفي السياق، يؤكّد الكتاب «(أننا) سنعمل بأكبر قدْر ممكن من الإخلاص، ونبذل قصارى جهدنا لتحقيق إعادة التوحيد السلمي. ولكنّنا لن نتخلّى عن احتمال استخدام القوّة، ونحن نحتفظ بخيار اتّخاذ جميع التدابير اللازمة، وذلك لحماية أنفسنا من التدخّل الخارجي وجميع الأنشطة الانفصالية»، ويتابع: «نحن لا تستهدف بأيّ شكل من الأشكال زملاءنا الصينيين في تايوان. إن استخدام القوّة سيكون الملاذ الأخير الذي قد نلجأ إليه في ظلّ ظروفٍ قاهرة. لا يمكننا إلّا اتخاذ تدابير صارمة للردّ على استفزازات العناصر الانفصاليين أو القوى الخارجية، في حال تجاوزوا خطوطنا الحمراء». ومقارنةً بالنسختَين السابقتين، لا يخفي الكتاب أن الصين باتت اقتصادياً وعسكرياً أقوى من أيّ وقت مضى، ما يجعل إعادة التوحيد بمثابة «حتميّة تاريخية». وهنا، يذكّر بأن «تنمية الصين وتَقدّمها هما العاملان الرئيسان اللذان يحدّدان مسار العلاقات عبر المضائق، وتحقيق إعادة التوحيد الوطني الكامل»، مضيفاً أن «للإنجازات العظيمة التي تَحقّقت على مدى أربعة عقود، على مستوى الإصلاح والانفتاح والتحديث، أثراً عميقاً على العملية التاريخية لحلّ مسألة تايوان وتحقيق إعادة التوحيد (...)»، بغضّ النظر عن الحزب السياسي أو الجماعة السياسية التي تتولّى أو ستتولّى السلطة في تايوان.
مصلحة تايوان معنا
ما يلفت في الكتاب الأخير أيضاً، أنه يركّز على حقبة ما بعد إعادة التوحيد المنشودة، مُفنّداً، بالأرقام، كيف ستخدم هذه العملية تايوان بشكل خاص و«المجتمع الدولي» بشكل عام؛ إذ يقول: «كان حجم التجارة عبر المضيق، يبلغ عام 1978، 46 مليون دولار فقط، فيما ارتفع إلى 328.34 مليار دولار، عام 2021، أي 7 آلاف أضعاف»، مشيراً كذلك إلى أن البرّ الرئيسي شكّل أكبر سوق تصدير لتايوان على مدار الـ21 عاماً الماضية، ما أدّى إلى تحقيق فائض سنوي كبير للجزيرة. كما أنه مثّل الوُجهة الأولى للاستثمارات الخارجية لتايوان؛ فبحلول نهاية عام 2021، استثمرت الشركات التايوانية في 124 ألف مشروع في الصين، بقيمة إجمالية قدرها 71.34 مليار دولار أميركي. ويتابع أن تنمية الصين وتَقدّمها، ولا سيما الصعود المطّرد لقوّتها الاقتصادية والتكنولوجية وقدراتها الدفاعية الوطنية، يوفّران مساحة واسعة وفرصاً كبيرة للتبادل والتعاون عبر المضيق، ويخدمان مصلحة سكّان تايوان، ولا سيما الشباب منهم، من خلال السماح لهم بمتابعة دراستهم، أو القيام بأعمال تجارية، أو البحث عن وظائف، أو الذهاب للعيش في البرّ الرئيسي. أضف إلى ذلك، إمكانية تكثيف التبادلات والتفاعل والتكامل عبر المضائق في جميع القطاعات، وتعميق الروابط الاقتصادية والشخصية بين السكّان من كلا الجانبين وغيرها من المنافع. ويستشهد الكتاب بشكل خاص بمثال ماكاو وهونغ كونغ، حيث تمّ تطبيق مبدأ «بلد واحد ونظامان»، والذي حقّق «نجاحاً باهراً في الحدّ من الاضطرابات التي خلقتها القوى المُعادية للصين من داخل المنطقة وخارجها في هونغ كونغ، وتحقيق التنمية المشتركة»، و«هو وحده القادر على تحقيق إعادة ضمّ تايوان بشكل سلمي». ومن هنا، يدعو الكتاب، السلطات في الجزيرة، إلى الحدّ من الانتقادات «التي لا أساس لها» ومن «الشيطنة» الجارية لهذا المبدأ، الذي سيتيح «استمرار النظام الاجتماعي السائد في تايوان لفترة طويلة قادمة، ويضْمن لها درجة عالية من الاستقلال الذاتي، مع مراعاة مصالح سكّان الجزيرة ومشاعرهم».
يركّز الكتاب على حقبة ما بعد إعادة التوحيد المنشودة، مُفنّداً كيف ستخدم هذه العملية تايوان


التاريخ يشهد
قبل الحديث عن أساليب إعادة التوحيد في الحقبة الجديدة وما سيلي هذه الخطوة، تُحاول بكين، من خلال الكتاب الأبيض، الردّ على الدعاية الغربية بإيراد جملة من الوقائع التاريخية والقانونية، إذ يُذكّر الكتاب بأن تايوان هي جزء لا يتجزّأ من الصين، مشيراً إلى حُكم سُلالتَي يوان وسونغ اللتَين أرسلتا هيئات إدارية لتمارس الولاية القضائية على أرخبيل بسكادورز وتايوان؛ ثمّ إعلان تايوان بوصْفها المقاطعة العشرين في الصين في عام 1885، قبل سيطرة اليابان على الجزيرة والأرخبيل عام 1894؛ ثمّ إصدار كلّ من الصين والولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة «إعلان القاهرة» عام 1943، أي عقب «حرب المقاومة الشعبية الصينية» ضدّ العدوان الياباني (1931-1945)، والذي شدّد على ضرورة تخلّي اليابان عن «الأراضي التي سرقتها من الصين، بما فيها شمال شرق الصين وتايوان وجزر بسكادورز، وإعادتها إلى الصين». وفي ما بعد، جاء «إعلان بوتسدام» الذي وقّعته الدول الثلاث نفسها عام 1945، واعترف به الاتحاد السوفياتي، ليؤكّد المطلب نفسه. وفي أعقاب تأسيس «جمهورية الصين الشعبية» عام 1949، والإطاحة بحزب «الكومنتانغ» اليميني، ثمّ اندلاع الحرب الأهلية بينه وبين «الحزب الشيوعي الصيني» في أواخر الأربعينيات، والتي انتهت إلى انسحاب «الكومنتانغ» في اتّجاه تايوان إثر خسارته، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في دورتها السادسة والعشرين عام 1971، «القرار 2758» الذي تعهّدت من خلاله بإعادة جميع الحقوق إلى جمهورية الصين الشعبية، والاعتراف بممثّلي حكومتها بصفتهم الممثّلين الشرعيين الوحيدين للصين لدى الأمم المتحدة، وطرد جميع الممثّلين غير الشرعيين من الجمعية، ليحسم هذا القرار بشكل نهائي القضايا السياسية والقانونية والإجرائية المتعلّقة بتمثيل الصين في المنظّمة الدولية، ويؤكّد أن لدى بكين مقعداً واحداً، وينفي بالتالي أيّ وجود لِما يُسمّى «دولتان صينيّتان» أو «صين واحدة وتايوان واحدة». ولاحقاً، تتالت القرارات التي لا يفتأ «المجتمع الدولي»، بطريقة أو أخرى، ينتهكها، بحسب بكين.
من خلال كتابها، والتحذيرات الصارمة التي تُوجّهها إلى السلطة في تايوان والقوى الخارجية الداعمة للأخيرة من مغبّة استخدام هذه الورقة لاحتواء الصين، يَظهر بوضوح أن بكين على ثقة بأن تايبيه ليست متهوّرة بما فيه الكفاية لتُعلن استقلالها عن البرّ الرئيسي. وبحسب صحيفة «آسيا تايمز»، التي تتّخذ من هونغ كونغ مقرّاً لها، ففي حال أظهرت الولايات المتحدة أيّ دعم لهذا الاستقلال، فمن المرجّح أن تضرب الصين، كخطوة أولى، السفن البحرية الأميركية وتُخرجها عن العمل. في المقابل، تَعتبر الصحيفة نفسها أنه من دون الوجود العسكري الأميركي، يمكن للمفاوضات بين تايوان والبرّ الرئيسي، من أجل إعادة التوحيد السلمي، أن تبدأ في أيّ وقت.