خطف تصريح وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، عن اتصالات تجري بين تركيا والنظام السوري، الأضواء. وفي ظلّ ما يشبه التجاهل في صحف حزب «العدالة والتنمية» وعدم صدور ردود فعل واضحة من الجانب السوري، يبدو أن أنقرة دخلت دائرة تطبيع العلاقات مع دمشق، وهي مدركة، في الوقت عينه، أن دون هذه المحاولة صعوبات لم تَلمسها في مسار تطبيع العلاقات مع كلٍّ من السعودية والإمارات وإسرائيل، وحتى مصر. وفي هذا الاتجاه، برزت تساؤلات حيال تأخُّر المحاولة التركية كل هذا الوقت، وما إن كان لها علاقة مباشرة بتعزيز فرص الرئيس رجب طيب إردوغان الانتخابية. وهل هذه المواقف مجرّد تكتيك، أم أنها تأتي في سياق استراتيجية شاملة بالنسبة إلى العلاقات مع سوريا؟ وهل تثق هذه الأخيرة - بما تبقّى من عمر سلطة «العدالة والتنمية» - بمَن كانت له حصّة لا تقلّ عن 70% في تدمير سوريا؟بدأت القصة في طريق عودة إردوغان من لقاء جمعه إلى نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في سوتشي أخيراً، حين قال - في ما يشبه «قبولاً تركيّاً ضمنيّاً» - إن الرئيس الروسي أبلغه بأنه إذا كان لا بدّ من عملية عسكرية تركية في شمال سوريا، فالأفضل أن تجري بالتعاون مع دمشق. وجاءت مقالة الصحافي يلماز بيلغين، في صحيفة «تركيا» الموالية، لتؤكد المضيّ قُدماً على هذه الطريق، إذ قال فيها إن «إمكانية أن يتّصل إردوغان بالرئيس السوري بشار الأسد، خلال وقت قصير، قائمة». وبلغت ذروة «الحبكة» مع كشف وزير الخارجية التركي عن أنه التقى - «على الواقف» لدقائق - على هامش مؤتمر وزراء خارجية دول عدم الانحياز في بلغراد، نظيره السوري فيصل المقداد، وأبلغه بأنه «لإحلال السلام في سوريا، يجب التصالح مع المعارضة». لكن مؤتمر بلغراد هذا عُقد في شهر تشرين الثاني من العام الماضي، فيما الإعلان عن اللقاء - وهو الأوّل منذ سنوات - هو الجديد. وتدحرجت كرة التطوّرات بعد كلام جاويش أوغلو، إذ برز، في هذا الإطار، ردّ فعل المعارضة السورية في المناطق التي تحتلّها تركيا في سوريا، حيث انتشرت صور التظاهرات والاحتجاجات في كلٍّ من إعزاز وجرابلس وعفرين، كما في إدلب. كما انتشرت، على مواقع التواصل الاجتماعي، مقاطع مصوّرة للهتافات ضدّ تركيا. لكنّ الانزعاج التركي الأكبر، تجلّى في إحراق أحد الشبّان السوريين العلم التركي في إعزاز، وهو ما أثار، بدوره، ردود فعل شعبية تركية، ومن بعض السياسيين ضدّ الذين «أطعمناهم فنقروا أعيننا». وسعت أنقرة إلى التخفيف من حدة الاحتقان، عبر بيان صدر عن الخارجية التركية يؤكد أنها «ستكون إلى جانب الشعب السوري وفق آليات القرار 2254»، فيما أعلنت لاحقاً توقيف الشخصين اللذين تعاونا على إحراق العلم التركي.
في هذا الوقت، آثرت الصحف الموالية، من مثل «صباح» و«أقشام» و«يني عقد» و«يني شفق» و«ستار» وحتى «تركيا» التي انطلق منها الخبر، الصمت، فيما جاءت عناوين صحف المعارضة إمّا مهلّلة لمبادرة جاويش أوغلو، وإمّا شامتة بما أصبحت عليه سياسة تركيا تجاه سوريا. وعنونت صحيفة «بركون»، مثلاً، «الذي تزرعه تحصده. الجماعات الجهادية التي غذّتها تركيا لسنوات، تحتجّ على تصريحات جاويش أوغلو»، فيما اعتبرت «إيفرينسيل» أن «تصريحات جاويش أوغلو اعتراف بانهيار العثمانية الجديدة»، وتحدّثت «قرار» عن «نار التحريض في عفرين وجرابلس وإعزاز»، وكتبت «سوزجي»: «أطعمِ الْغراب يقطع عينيك (...)». من جهتها، دعت صحيفة «مللي غازيتيه» التابعة لـ«حزب السعادة»، إردوغان، إلى الاعتذار من الحزب بعدما أصبح، الآن، ينادي بسياسة تجاه سوريا، هي تلك التي دعاه إليها. لكن الرئيس التركي اتّهم «السعادة»، بـ«الخيانة والعمالة لنظام الأسد».
فيما لم يصدر تعليق مباشر لدمشق، بدت تصريحات مؤيّدي «العدالة والتنمية» خجولةً


وفيما لم يصدر تعليق مباشر لدمشق على ما يجري من تطورات، بدت تصريحات مؤيّدي «العدالة والتنمية» خجولةً في هذا الإطار. من هؤلاء، ندرت أرسينيل الذي قال، في صحيفة «يني شفق»، إن «الديناميات الداخلية في تركيا وسوريا تجاه تحسين العلاقات بينهما، كان تأثيرها قليلاً، فيما المعادلات الإقليمية والدولية هي الأهمّ. من ذلك: ارتقاء العلاقات التركية - الروسية من مستوى التعاون الإقليمي إلى مستوى التعاون الدولي، ولا سيما في البحر الأسود والقوقاز، كذلك كان لتدهور العلاقات التركية - الغربية أثره في التقارب مع سوريا». على هذا المنوال، كتب السفير التركي السابق في دمشق، عمر أونهون، قائلاً إن المصالحة بين البلدين «معقّدة وصعبة»، وتساءل: «كيف يمكن ربط تصريحات إردوغان، الثلاثاء الماضي، بعملية عسكرية توحّد بين المناطق الآمنة على امتداد الشريط الحدودي، وبين عملية المصالحة؟»، مشيراً إلى أن «كل شيء في تركيا مرتبط الآن بالوضع الاقتصادي والانتخابات الرئاسية... تنال سوريا، اليوم، حصّتها من هذا الارتباط».
وفي صحيفة «قرار» المعارضة والقريبة من علي باباجان وأحمد داود أوغلو، شكّك الكاتب المعروف والمعبّر عن ميول الغرب، عثمان سرت، في خطوة أنقرة، قائلاً إن هناك سببين يدعوان إلى عدم التصالح بين البلدين: الأوّل أن النظام السوري لا يسيطر إلّا على جزء من سوريا؛ والثاني أنه ذبح نصف مليون، وهجّر أكثر من سبعة ملايين نسمة. وبحسب سرت، فإن الخطوة التركية لا تعدو كونها محاولة لإيجاد موارد مالية في الطريق إلى الانتخابات الرئاسية، معتبراً أن «اللقاء مع دمشق لن يكون كافياً لفتح هذا القفل، بل سيؤدّي إلى الإضرار بسمعة تركيا الضعيفة أصلاً في المنطقة، وسيزيد من ضعف إردوغان في الانتخابات وأمام بوتين، ولا سيما مع ازدياد عزلته عن الغرب».
في المقابل، رحّب كبير مستشاري رئيس «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، أونال تشيفيك أوز، بالحوار بين دمشق وأنقرة باعتباره «أمراً واقعيّاً»، ودان، في الوقت ذاته، الاحتجاجات المعادية لتركيا. وقال المسؤول في الحزب، علي ماهر باشارير، إن حرْق العلم التركي، هو نتيجة السياسة الخارجية الخاطئة لحزب «العدالة والتنمية»، فيما رأى إحسان تشارالان، في صحيفة إيفرينسيل» اليسارية، أن التغيير في سياسة الحكومة التركية تجاه سوريا، هو اعتراف بانهيار «العثمانية الجديدة»، معتبراً أن «ما يجري قد يستدعي القول إن إردوغان عاد إلى طريق العقل، وتخلّى عن فكرة أن السياسة الخارجية أداة للعثمانية الجديدة». وقال الكاتب إن هناك صعوبات تواجه تطبيق السياسة الجديدة، تتمحور خصوصاً حول اصطفاف الولايات المتحدة وإسرائيل في الخط نفسه مع تركيا لإسقاط الأسد. كما أن المراكز المستفيدة من ريع الحرب كثيرة، وكلّها لن تكون راضية عن السياسة الجديدة لتركيا، بل ستنتقل إلى العمل الفعلي ضدّها.
ورأى الكاتب موسى أوز أوغورلو، في حوار مع صحيفة «إيفرنسيل»، أن أيّ اتفاق بين دمشق وأنقرة «سيعني نهاية التنظيمات المعارضة، لكن هذه لن تستسلم وستحاول المقاومة ضدّ الجيش التركي»، معتبراً أن «هناك خطراً في أيّ اتجاه ستمضي هذه التنظيمات. سوريا حاربتها وعزلتها في إدلب ومناطق السيطرة التركية. لن يتغير شيء بالنسبة إليها، لكن بالنسبة إلى تركيا، فإنه إذا لم يتمّ القضاء على هذه التنظيمات، فالوضع لن يكون مشرقاً». وقال إن هدف تركيا الرئيس هو القضاء على «وحدات حماية الشعب» الكردية، ومن ثم إنشاء منطقة حدودية تكون تحت سيطرتها. وطالب الكاتب في صحيفة «جمهورييات»، محمد علي غولير، بحلّ «الجيش السوري الحر»، ولا سيما بعد إحراق العلم التركي، فيما تساءل أورخان بورصه لي، في الصحيفة نفسها، عمّا إن كانت الخطوة التركية «عملية فعلية نحو السلام، أم مجرّد جزء من دعاية انتخابية رئاسية لحصد الأصوات لإردوغان، إذ إن سياسة خارجية غير مبدئية ولا تنظر إلى البعيد وتقوم على المصالح الشخصية، مفتوحة على كل الاحتمالات».