ينهي الرئيس الأميركي، جو بايدن، زيارته اليوم لإسرائيل، ليحلّ غداً ضيفاً على وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي يستقبله وعدداً من الزعماء العرب، في لقاء يُعدّ الهدف الرئيس للزيارة. ويبدو اللقاء المنتظَر في جدة محمَّلاً بالآمال الأميركية التي لا يُقدَّر أن يتحقّق منها الكثير، على رغم أنه يمثّل بذاته غاية للضيف والمضيفين، بوصْفه جزءاً من محاولة ترميم مكانة الولايات المتحدة لدى حلفائها في المنطقة، إلى جانب كوْنه - وهذا هو الأهمّ - مسعًى لتجنيد قدرات «الحلفاء» النفطية والغازية، في سياقات الحرب الدائرة مع روسيا في شمال أوروبا. وتأتي قمّة جدة بعدما فشلت زيارة بايدن للدولة العبرية وكذلك للسلطة الفلسطينية، في تحقيق أيّ خرق نوعي في أيّ من الملفّات العالقة لدى تل أبيب ورام الله، وإن «أبدع» بايدن ومضيفوه في تخريج ما أمكن من مواقف وعطاءات ووعود، كان آخرَها وربّما أهمّها، وعدٌ أميركي لإسرائيل بأن لا يُسمح لإيران بأن تمتلك سلاحاً نووياً، عبر ما أُطلق عليه «إعلان القدس» الذي لن يُلزم بالضرورة أحداً في واشنطن، عندما يأتي وقت الاستحقاق النووي العسكري في إيران.ومن المرجّح أن يواجه بايدن، لدى لقائه الزعماء العرب في جدة، أسئلة شبيهة بما لَقِيه في إسرائيل، وتحديداً لناحية «التهديد» الإيراني، و«الحكمة» من إحياء الاتفاق النووي، واستراتيجية أميركا لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة مع أو من دون اتفاق نووي، في حال نجح الأفرقاء في إحيائه. وهنا، لن يُسمِع الرئيس الأميركي مضيفيه أكثر ممّا أسمعه الإسرائيليين، إذ قال لهم إن الاتفاق مع إيران يمثّل أفضل فرصة لتعطيل محاولاتها تطوير قنبلة نووية، باتت الآن أقرب إليها من أيّ وقت مضى، معتبراً أن «الشيء الوحيد الأسوأ من إيران الموجودة الآن، هو وجود إيران مع أسلحة نووية». ولدى سؤاله عمّا إذا كان بإمكان الولايات المتحدة استخدام القوة إذا لزم الأمر، أجاب: «إذا كان هذا هو الملاذ الأخير، فنعم». لن ينشغل المضيفون العرب كثيراً في البحث في النقطة الأخيرة، التي ستبدو بالنسبة إليهم مفهومة، تماماً كما فُهمت في تل أبيب نفسها: لا خيار عسكرياً، بل مفاوضات إلى حين تَحقُّق الاتفاق، أي أن المقاربة الأميركية لن تتغيّر، ما يعني أن خشية «الحلفاء» في المنطقة، لن تتغيّر هي الأخرى، على رغم كلّ التطمينات التي ستُسمَع في اللقاء.
هكذا، تبدو انشغالات «الحلفاء» في مكان، واهتمامات بايدن في مكان آخر، على رغم صورة «الوحدة» التي يُراد إخراجها وتثبيتها في الوعي العام. تركيز الرئيس الأميركي منصبّ على البيت الداخلي، حيث يعاني الناخب اقتصادياً قبل الانتخابات النصفية للكونغرس في تشرين المقبل، وكذلك على المواجهة الحادّة مع روسيا والأقلّ حدّة مع الصين. وعلى هذه الخلفية، يمكن تقدير ما تتطلّع إليه واشنطن من هذه الزيارة، التي تبدأ فعالياتها الرئيسة فور مغادرة بايدن تل أبيب، حيث المجاملات والعلاقات العامة كانت مهيمنة على المشهد. أمّا مطالب المضيفين فلن تكون أميركا متلهّفة لأجل تحقيقها، إلّا في ما يتساوق مع أهدافها هي، وعلى رأسها تقليص ما أمكن من تبعات المواجهة مع روسيا. ومع ذلك، يمكن الحديث عن سلّة أهداف مشتركة: زيادة إنتاج النفط والغاز؛ تعزيز التطبيع وتنميته بين إسرائيل ودول عربية وإلحاق السعودية بركبه؛ إنشاء حلف دفاعي بين دول عربية وإسرائيل في وجه إيران (ناتو إقليمي)؛ إفهام «الحلفاء» أن الولايات المتحدة لن تتخلّى عن أمن أنظمتهم سواءً توصّلت إلى اتفاق مع إيران أم لا، وأن لا شيء سيُغيّر من اهتمام أميركا بالمنطقة على رغم انشغالها بأماكن أخرى حول العالم؛ إبرام المزيد من صفقات أسلحة بما يتيح تدعيم الاقتصاد الأميركي عشية الانتخابات النصفية.
سيَثبت للجميع أن استراتيجية الانكفاء الأميركي هي استراتيجية راسخة وليست ظرفية


لكن هل ستُحقّق الزيارة هذه الأهداف؟ وهل ستكون النتيجة كاملة أو جزئية؟ التقديرات الأكثر رجحاناً لا تعطي بايدن علامة نجاح معتدّاً بها. في واقع الأمر، كانت الولايات المتحدة، حتى الأمس القريب، ذات تموضع هجومي إقليمي مبادِر، لصدّ أيّ تهديدات لمصالحها الخاصة أو مصالح حلفائها. كما كانت لا تتوانى عن قلْب أنظمة وحكومات لتوسيع رقعة تأثيرها ونفوذها، أو في الحدّ الأدنى إثارة الفوضى واللااستقرار في وجه الأنظمة المعادية، وإشغالها بصدّ الهجمات، وصولاً إلى دفعها للاحتراب الداخلي. باختصار، كانت سياسة واشنطن في المنطقة تتلخّص بالآتي: إمّا معَنا، وإمّا السقوط والفوضى. إلّا أنه، ومنذ ما قبل المواجهة الأميركية - الروسية في أوكرانيا، بدأت واشنطن تُظهّر إشارات تراجعها في الإقليم، وتَحوّلها من المبادرة والهجوم إلى الانكفاء والدفاع، وهذا هو معنى «ترْكها» المنطقة. بتعبير آخر، باتت الولايات المتحدة تكتفي بما لديها، ولا تسعى، مع الإمكان، لمواجهة الأعداء والخصوم في الإقليم، وتحاول تفادي المواجهات العسكرية، بل وحتى مجرّد التهديد بها. هذا التموضع أثار قلق الحلفاء الخليجيين وإسرائيل، فيما بدا الأرق مضاعَفاً لدى السعودية، التي تتشابك فيها المصالح الشخصية لحكّامها مع مصالح النظام. وازداد منسوب هذا القلق مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي استهلكت الانشغال الأميركي ودفعت قضايا الشرق الأوسط أكثر إلى الخلف، الأمر الذي ضاعف حالة غياب المبادرة الأميركية.
هكذا، لم يَعُد إسقاط النظام الإيراني مطلباً - وإن ثبتت قبل هذه المرحلة صعوبة تَحقُّقه -؛ كما لم يَعُد صدّ النفوذ الإيراني في الإقليم هدفاً يحوز أولوية أميركية قياساً بما مضى. وفي العموم، بات المعيار المحدِّد لأيّ تحرّك أميركي ضدّ إيران، هو عدم التسبُّب بمواجهة عسكرية مباشرة معها. ومن هنا، باتت الولايات المتحدة أكثر ابتعاداً عن مصالح حلفائها، الذين يَعدّون هذا الواقع مخيفاً، ومدعاةَ تحرُّك لإعادة الولايات المتحدة إلى «صوابها»، خاصة أن حكّام دول الإقليم أعطوا الولايات المتحدة كلّ ما تريد وأزْيد، من دون عوائد كانوا يتوقَّعونها منها. وعليه، تتصدّر قائمة «هموم» هؤلاء، كيفيةُ مواجهة إيران بالقدرات الذاتية، وإن عبْر أحلاف ومعاهدات وتموضعات استخبارية وعسكرية مع إسرائيل أو من دونها، في الوقت الذي تتلمّس فيه هذه الأنظمة أنها تفقد المظلّة الحمائية الأميركية بالمستوى والحجم اللذين كانت عليهما سابقاً. أيضاً، يَبرز سؤال حول كيفية تمكُّن الولايات المتحدة من إنشاء أحلاف عسكرية لمواجهة إيران، وهي نفسها تتجنّب حتى أصغر المواجهات العسكرية معها؟
بناءً على ما تَقدّم، هل يمكن للقاء جدة أن يغيّر الاستراتيجية الأميركية؟ ثمّة شكّ كبير، خصوصاً أن جمْع بايدن الزعماء العرب بعد «تهميش» طويل منذ أن بدأت ولايته الرئاسية، يأتي فقط على خلفية أهداف أخرى - لن تكون على حساب الاستراتيجيات الأميركية المفعَّلة في المنطقة -، على رأسها دفْع الأنظمة الخليجية إلى التموضع خلْف الولايات المتحدة بكلّ ما لديها، في المواجهة الدائرة حالياً مع روسيا، واللاحقة - إن حصلت - مع الصين. ومن هنا، سيسمع المجتمعون في جدّة المطالب الأميركية، وفي مقدّمها أربعة: الامتناع عن إقامة روابط عسكرية واقتصادية تضرّ المصالح الأميركية في المنطقة وحول العالم، وتحديداً لناحية تقليص الفاعلية المرجوّة من العقوبات على روسيا؛ الانسحاب من أيّ اتفاقيات اقتصادية، وتحديداً تلك التي ترتبط بالنفط والغاز، مع الجانب الروسي، بما يشمل اتفاقيات الإنتاج والتنسيق المشترك في سوق الطاقة، الأمر الذي من شأنه أن يساهم في تخفيف أزمة الطاقة العالمية من جهة، وأن يؤذي الاقتصاد الروسي، الذي يُعدّ أهمّ أسلحة موسكو في مواجهة الغرب، من جهة أخرى؛ الامتناع عن تعميق العلاقات مع الجانب الصيني الذي يزيد نشاطه في المنطقة، مستغلّاً الأزمة الدولية لتعزيز حضوره فيها، وهو ما ستكون له تداعيات سلبية جدّاً على المديَين المتوسّط والبعيد؛ تأمين «أمن المنطقة» بقدرات ذاتية، ضمن صيغة تجْمع «الحلفاء» بوجه إيران، وتكون الولايات المتحدة راعية لها من الخلْف، بما يبدأ من تعاون استخباري وأمني، وصولاً إلى حلف عسكري مباشر، وما بينهما.
في المقابل، سيُسمع بايدن مضيفيه، وعلى رأسهم السعودي، الكثير ممّا يريدون، من دون أن يُلزم نفسه بتنفيذه: أميركا موجودة في المنطقة وستبقى فيها؛ انشغال واشنطن بمواجهة موسكو لا يعني انشغالها عن «حلفائها»؛ لا انسحاب عسكرياً أميركياً ولا إعادة انتشار ترى واشنطن أنهما سيؤثّران سلباً على «الحلفاء»؛ الولايات المتحدة معنيّة كما كانت بمنْع أيّ محاولة لزعزعة استقرار الأنظمة، وهي لن تسمح باستغلال المتغيّرات الدولية لتبديل الوضع الراهن إقليمياً.
بالإجمال، يُقدّر أن تنتهي زيارة بايدن بنتائج محدودة، إلّا أنها ستثبت للجميع أن استراتيجية الانكفاء الأميركي عن المبادرة، وفرض الإرادات بالقوة أو بالتهديد باستخدامها، هي استراتيجية راسخة وليست ظرفية، ويتطلّب تغييرها أكثر من مجرّد تهديدات كامنة تحدق بـ«حلفاء» إقليميين.