يبدي كثر من الكتّاب الأميركيين استغراباً للتنازلات المجّانية التي قدّمها بايدن لابن سلمان؛ فهم يعتقدون أنه كان بإمكانه أن يحقّق الكثير لو التزم بوعوده حول محاسبة السعودية، واتّخذ خيارات أخرى لتخفيف أثر ارتفاع أسعار النفط، مثل الاستثمار في قطاع الطاقة داخل الولايات المتحدة، وزيادة الاعتماد على الطاقة الخضراء، ما يخفّف الحاجة إلى دول النفط. أمّا الصفقة التي ستُعقد في جدة، فهي بالدرجة الأولى صفقة بين ابن سلمان وإسرائيل، جيء ببايدن ليكون وكيلاً للكيان فيها، وليشهد على إعادة توريط الولايات المتحدة (وإنْ نسبياً) في الشرق الأوسط، علماً أنه وصل إلى الرئاسة على أساس أن يستكمل تنفيذ برنامج باراك أوباما الذي مثّل تحوّلاً كبيراً في السياسة الأميركية نحو الابتعاد عن هذا التورّط، وأبقى على الفريق ذاته من المساعدين الذين تولّوا مختلف الملفّات أيام الرئيس الأسبق، فإذا به ينفّذ بالحرف سياسات سلفه دونالد ترامب التي مثّلت انقلاباً على سياسات أوباما. ونجم ذلك عن حال التيه التي يعانيها بايدن، وتأثّره بالمساعدين المختلفين، ما أوصله إلى انحدار في الشعبية ندر أن يصل إليه رئيس أميركي قبل أن يُكمل عامه الثاني في الرئاسة، حيث بلغت نسبة التأييد له أقلّ من 33 في المئة من الأميركيين.
المعارضة الداخلية الأميركية للزيارة تعكس رفضاً شعبياً للعودة بالعلاقات إلى ما كانت عليه
وإذا كان الثمن الذي يريده بايدن من ابن سلمان مقابل كلّ تنازلاته، هو فكّ التحالف في «أوبك بلس» مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حتى يتسنّى له زيادة الإنتاج والضغط على الأسعار هبوطاً، فهذا مشكوك في تَحقّقه لأسباب كثيرة؛ أهمّها أن التحالف النفطي هو فقط أحد العوامل التي قد تؤثّر في السعر أو لا تؤثّر، فيما المؤثّر الأساسي هو اضطراب أسواق النفط والغاز نتيجة الحرب في أوكرانيا. وحتى لو أراد ابن سلمان وحلفاؤه الخليجيون فكّ التحالف مع روسيا، فقد لا يستطيعون زيادة الإنتاج، لأنهم بالفعل ينتجون بطاقتهم القصوى أو قريباً منها. كذلك، فإن روسيا ليست معدومة الخيارات في حال عمد وليّ العهد السعودي إلى فرْط «أوبك بلس»، والذي لولاه لما كان أُجبر بايدن على التراجع. وحتى التطبيع مع إسرائيل سرّاً أو علناً، لن يمنح ابن سلمان حصانة في مواجهة ما يمكن للروس أن يفعلوه، أو بدأوا يفعلونه بالفعل، في وجه كلّ مَن يعنيهم الأمر، من أميركا إلى إسرائيل إلى السعودية، من خلال زيارة بوتين إلى إيران قريباً، في تهديد ضمني بقلْب الطاولة في حال غيّرت السعودية موقفها وانخرطت في التحالف المعادي لروسيا في أوكرانيا، وهو ما دفع الإدارة الأميركية إلى التحذير من أن تعزيز العلاقات الروسية - الإيرانية هو «تهديد كبير».
سيسخر الجمهوريون كثيراً من انقلاب بايدن على نفسه. وسيستخدمون في حملاتهم الانتخابية في تشرين الثاني المقبل، كلماته التي تعهّد فيها بمحاسبة السعودية وجعلها دولة منبوذة، وعدم التعامل شخصياً أبداً مع ابن سلمان، ليفعل عكسها تماماً، بما في ذلك إلغاء حظر بيع الأسلحة الهجومية للسعودية، والذي تدرسه الإدارة الأميركية حالياً. من جهتهم، يَعتبر المعارضون السعوديون المتزايدون، سواءً من السجناء أو المفرَج عنهم والممنوعين من السفر داخل السعودية نفسها، أو من الفارّين إلى الخارج، ما يقوم به بايدن «خيانة» لهم، لا سيما وأنه وعد بـ«مناصرة حقوق الإنسان» في المملكة. وكان يمكن أن يكون الاستثمار في تلك المعارضة، أحد الخيارات التي يمكن من خلالها إجبار ابن سلمان على العودة إلى السرْب، أو حتى الإطاحة به كلياً. وبالفعل، استطاع بايدن، في بداية عهده، من خلال بعض الضغط، إجبار ابن سلمان على الإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين. إلّا أن عودته إلى التراخي أعادت إلى الحاكم الفعلي للمملكة المبادرة، وجعلته يشعر بأن يده مطلقة لفعل ما يريده بهؤلاء المعارضين، ولا سيما مَن هم في الداخل، مِن قتل وسجن وتعذيب. وستخسر بذلك الولايات المتحدة هذا الرهان، علماً أن توسُّع المعارضة السعودية لتشمل أعضاء كباراً في الأسرة المالكة، وفّر لها فرصة لفرْض تغييرات تخفّف عنها عبء احتضان النظام السعودي.
ابن سلمان بدأ منذ الآن يتصرّف بوصْفه المنتصر الذي وجّه ضربة كبرى إلى خصمه، فيما ينتظر مناصروه لحظة وصول بايدن لترجمة هذا «الانتصار»، وجعْل العالم يشاهد «فضيحة» الضيف مباشرة على الهواء، متمنّين أن يتعثّر الأخير على درج الطائرة أو على السجادة البنفسجية (اللون الذي أقرّه ابن سلمان لاستقبال الضيوف)، أو يزلّ لسانه بتعبير ليس في مكانه. وربّما، لهذا ارتأى المسؤولون الأميركيون أن لا يعقد رئيسهم مؤتمراً صحافياً في نهاية الزيارة.