«هذه المصافحة المخضّبة بالدم، سترسل رسالة واضحة إلى الطغاة في كل مكان، بأنه يمكنكم المراهنة على أن الولايات المتحدة تخون قيمها وتكافئ السلوك المشين»[الناشط عبدالله العودة عن مصافحة محتملة بين بايدن ومحمد بن سلمان]

لا تعكس مثل هذه التصريحات مجرد العلاقة الأبوية بالولايات المتحدة، وكأن المراقبة والعقاب في العالم هما مسؤولية أميركية. بل إن جوهر هذه التصريحات تدل على أن ما يُطلق عليه بالنشاط والعمل السياسي للنخب العربية ما هو إلا عملية منظمة من الالتماس والشكوى للرعاة الغربيين، ومخاطبة الرأي العام الغربي. هذا الواقع، هو أبرز مصاديق أننا نعيش في عالم تحت الهيمنة الأميركية، فحين تريد النخب العربية أم غيرها ومن أي دولة، تغيير وضعها القائم، خصوصاً من ناحية علاقتها بالسلطة التي تحكمها، فهي لا تلجأ إلى مخاطبة شعبها وتنظيمه ضد هذه السلطة وراعيها الغربي. بل وعلى العكس تماماً، تمسي المسألة محاولات جاهدة لنسج علاقة مع المؤسسات الغربية، القائمة أصلاً على هندسة وترتيب هكذا جهد، فهو جزء محوري من ديمومة هيمنتها، بدءاً من ناحية الهيمنة الثقافية والإيديولوجية تحت عنوان خطاب الديموقراطية وحقوق الإنسان، إلى التمويل المباشر، ومسار الـ «PR» والـ«Lobbying». من هنا نفهم رواج النشاط باللغة الإنكليزية، والهوس بالتغطية والحديث السياسي للنخب العربية عبرها، فالغاية في الأخير مخاطبة المجتمعات البيضاء، وتقديم التقارير الحقوقية للديبلوماسية الغربية في بروكسل وواشنطن. فبالنسبة إلى الناشط الليبرالي العربي، تغيير وضع وطنك هو عبر التماس مسؤولي البلدان الأخرى في عملية شحذٍ وتسوّل منظّمة. بدون مبالغة، المشهد هو ذاته كزيارات الطلب والالتماس من الدواوين الأميرية والملكية وقصور الرؤساء العرب، ولكن على مستوى عالمي.
للمسألة سؤالان مركزيان: الأوّل، لماذا يشعر هؤلاء بالخيانة؟ والثاني، لماذا، ورغم شعورهم هذا وسوابقه التاريخية لهم ولغيرهم، فهم لن يتغيّروا؟ لنبدأ بالسؤال الثاني، في الأدبيات الشعبية العربية نقول: «المتغطي بأميركا عريان»، وهذا القول ليس حكراً على المناهضين للولايات المتحدة، بل إن الكثير من المتغطّين بأميركا يردّدونه، بل إن بعض الناشطين السعوديين القائم نشاطهم على «الاستجداء السياسي» -بتعبير الدكتور فتحي الشقاقي- لأعضاء الكونغرس والبرلمانات الأوروبية، كانوا يرددون من بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان أن «المتغطّي بالأميركي عريان»، ولكن لم يعتبر أحدهم. يعود ذلك إلى أن موازين القوى قاهرة لصالح الولايات المتحدة، حيث يرون أنهم يعانون من قصور ذاتي تجاه القوى الغربية يجعلهم يميلون معها. وكذلك، وبشكل واعٍ وغير واعٍ، لا يرى هؤلاء سبيلاً لأي تغيير سوى عبر الأدوات الثقافية والسياسية الأميركية. وعليه، يمسي فهم الهيمنة الثقافية الأميركية أمراً محورياً، فعلاقة هذه النخب مع «القيم» الغربية هي علاقة قوة، أي إن قوة الخطاب الإيديولوجي الأميركي وهيمنته هي ما يربط هؤلاء مع حزمة «القيم» هذه، وحتى وإن رأى نقيضاً لهذه القيم رأي العين، فهو لا يزال وضمن موازين القوى يرى فيها الكفة الأقوى من ناحية هيمنة الخطاب. هذه الهيمنة الخطابية التي يردّدها الأميركيون بأجهزة إيديولوجية جبّارة من أكاديميا وإعلام إلى صناعة الأفلام، هي ما تجعلهم يشعرون بالخيانة، فأنت لا تشعر بالخيانة سوى ممن نسجت علاقة ثقة موهومة به وصدّقت زيف ما يصوّر لك.
ولذلك، مع كل خيانة تسمعهم يردّدون بصوت حزين «أصلاً السياسة مصالح»، ورغم ذلك سيعيدون الكرة مرة أخرى، وسيرفعون راية «القيم» الأميركية، وسيخاطبون الديبلوماسية الأميركية تحت معادلة نحن من نؤمن بـ«قيمكم» بينما حلفاؤكم ديكتاتوريون وطغاة، ونحن الأقرب وجدانياً وإيديولوجياً لـ«ما تمثّله أميركا»، لتعود دورة الأمل والخيانة ذاتها من جديد. إن سبب ديمومة هذا الدورة، تعود للعامل السالف ذكره، أنه هذه هي ديناميكية العمل والنشاط السياسي الوحيدة، التي تصحبها حزمة امتيازات وحرية تعبير وفتح للمنابر والصحف، وما دونها ممّا يناقض السياسات الأميركية، يُهمّش ويُحارب ويصبح ذا كلفة عالية.
في الحالة السعودية تحديداً، تتميّز علاقة الناشطين مع مراكز القوى الأميركية، ويعود ذلك لتميّز العلاقة التاريخية الأميركية-السعودية، ولعل أنه ومن المفارقات المثيرة، أن كلاً من جبهة السلطة وجبهة الناشطين المعارضين تتنافسان على الحظوة والارتباط بالأميركيين. والتنافس في استعراض تغريدات وتصريحات أميركية إحداها تثمّن الدور السعودي وأخرى تناهض محمد بن سلمان، بل وصل الأمر إلى ابتذال مثير للشفقة، ويعكس طبيعة علاقة التبعية، حيث يعلق ناشط سعودي على كلام بايدن عن الإفراج عن الناشطة لجين الهذلول أنها «أوّل شخصية سعودية ينطق بها بايدن منذ رئاسته». وحين زار مجموعة من الناشطين البيت الأبيض علّق ناشط آخر أنهم وصلوا إلى البيت الأبيض قبل وصول أحد من السلطة. هذه الزيارات تشكّل إفصاحاً مادياً جلياً على كيفية الاستلاب وعلاقته بالقرب من صرح مركز صنع القرار الأميركي. العلاقة هنا، بكل تجلياتها من التقاط للصور وطبيعة الابتسامات واللباس، تعكس الاعتزاز -المذلّ- بالقرب من رمز القوة الثقافية الأميركية، وعقدة الرجل الأبيض. وأيضاً، ومما يميّز جبهة الناشطين، هو دعمها من أسرة الجبري، ونحن هنا في حالة فريدة بين باقي الأنظمة العربية، حيث نتحدث عن شخصية عميلة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «بالنمرة والاستمارة» كما نقول، أي بالمعنى المباشر للعمالة. يقوم عمل الأب والابن على التنافس وبشكل أشبه بمحاولة استنفار غِيرة السلطة من القرب من الرئيس الأميركي، كأن يتباهى ابن سعد الأكبر، وشقيق الرهينتين المراهقين لدى السلطة، بالتواجد في محافل خاصة يحضرها الرئيس بشخصه.
بعد كل هذا التنافس يزور بايدن المملكة، وتحديداً مدينة جدة، ليلتقي بالمسؤولين السعوديين في مقدمتهم ولي العهد محمد بن سلمان. صوّر مريدو السلطة الأمر كانتصار وخضوع للرئيس الديموقراطي، وهو أمر ليس خاطئاً بشكل كلي، فقد لعبت التناقضات الدولية لصالح السلطة السعودية بشكل يعطيها مساحة من المناورة مع الأميركيين. إنّ طريقة وتبعات زيارة الرئيس الأميركي للوطن العربي تلزمنا بقراءتها بشكلها الواقعي، كممثّل للإمبراطورية، فالرئيس هنا يأتي ومعه حزمة من السياسات التي تشكّل المنطقة ويراهن عليها كثر، ومن السذاجة فهم الزيارة ضمن الأدبيات المهيمنة للعلاقات الدولية. فجو بايدن، واستقباله في كيان العدو، وفي السعودية، مع جمع من رؤساء وممثلي الحلفاء، يؤسّس لترتيب للمصالح الإمبراطورية الأميركية. مصالح تفهم السلطات السعودية، رغم الرعونة الأوّلية للعهد الجديد، أنها تمثّل القيم الأميركية الحقيقة، التي ترسم معالم أي علاقة مع واشنطن، دون سراب زيف أدبيات القيم الرنّانة. وهنا على الناشطين المراهنين على الولايات المتحدة أن يعوا أنه ومهما استجدوا وركعوا للأميركيين فمصيرهم «الخيانة»، وأنهم لن يصلوا إلى مستوى ركوع الأمراء السعوديين وما يمكن لهؤلاء الأمراء القيام به وتقديمه للأميركيين، أمّا بالنسبة إلينا، الذين لا نرى في الولايات المتحدة سوى عدو لعروبتنا، فنحن بريئون منكم.

* كاتب عربي