أضاف الاتفاق الثلاثي الموقَّع بين تركيا وفنلندا والسويد لضمّ الأخيرتَين إلى حلف «الناتو» شرطَ تخلّيهما عن دعم «حزب العمّال الكردستاني» وامتداده السوري، مزيداً من الضغوط على الأكراد الذين باتوا يشعرون بأنهم مستهدَفون في وجودهم، سواءً في تركيا أو سوريا. وإذ تشير بعض التحليلات التركية إلى أن مجمل حركة أنقرة تتمحور حول العامل الكردي بوصفه بيضة قبّان الرئاسيات التركية، لا يزال موقف «حزب الشعوب الديموقراطي» غير واضح إزاءها، وهو الساعي إلى «بيع» أصوات قاعدته بالسعر الأعلى، وبما يخدم مصالحه، على رغم أنه دائماً ما «يخرج من الموْلد بلا حمّص»
يغلب على الأكراد في تركيا وسوريا شعورٌ بأنهم مستهدفون في وجودهم، وليس في توجّهاتهم فقط، سواءً من خلال الاتفاق التركي مع السويد وفنلندا للتضييق على عناصر «حزب العمّال الكردستاني» في تركيا وفي أوروبا، كما للحدّ من المساعدات الإسكندنافية إلى «حزب الاتحاد الديموقراطي» في الشمال السوري؛ أو عبر تهديد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بعملية عسكرية في منبج وتل رفعت، وربّما في مناطق أخرى لـ«تنظيفها» من الوجود الكردي؛ فضلاً عن الاستهداف المفتوح في الداخل التركي لـ«حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي الذي يُنظر إليه بوصفه بيضة قبّان في تشكيل التوازنات الداخلية، وفي تحديد اتّجاه الانتخابات الرئاسية المقبلة. وفي ظلّ هذا المشهد، يمكن الحديث عن الآتي:
1- ينتظر الأكراد عموماً ما ستقوم به كلّ من السويد وفنلندا من إجراءات تَحدّ من النشاط الكردي على أراضيهما، استناداً إلى الاتفاق الثلاثي الموقّع بينهما وبين تركيا. وهي إجراءات يأتي في مقدّمها تسليم 73 من المطلوبين الأكراد مباشرة وعلى وجه السرعة إلى أنقرة. وقد صدرت تصريحات فنلندية وسويدية مفادها أن المسألة ليست أوتوماتيكية، بل مرتبطة بقرار القضاء المستقلّ، وهو ما ردّت عليه تركيا باعتبار أن من شأن أيّ عرقلة لتنفيذ الاتفاق أن تُوقف مجدّداً مسار انضمام البلدَين إلى «حلف شمال الأطلسي»، من خلال عدم تصديق البرلمان التركي على المذكّرة (تتطلّب المرحلة التالية من عملية الانضمام إلى «الناتو» مصادقة برلمانات دول الحلف جميعاً). كذلك، تعتقد استوكهولم وهلسنكي أن الحديث عن وقْف المساعدات إلى الأكراد في شمال سوريا، مبالَغ فيه. فالاتفاق لا يصنّف «حزب الاتحاد الديموقراطي» و«وحدات حماية الشعب» الكردية، على أنهما «منظّمات إرهابية». وبالتالي، فإن المساعدات الإنسانية ستتواصل، وهو ما يثير غضب الأتراك.
على أن اتفاق مدريد الثلاثي يُقلق الأكراد في تركيا وسوريا، ولكنه لا يخيفهم. وبحسب صحيفة «يني أوزغور بوليتيكا» المؤيّدة لـ«العمّال الكردستاني»، والتي تصدر في تركيا باللغة المحلية، فإن أنقرة، باتفاقية مدريد ودعم «الأطلسي» واعتبار روسيا الخطر الأكبر، تخلّت عن سياسة الحياد بين واشنطن وموسكو، وهو ما يضعها في مواجهة مع روسيا وسوريا والعراق، فضلاً عن الصين. وفي هذه الحالة، تقول الصحيفة، تجد الدول المستهدَفة من «الناتو» وتركيا، حاجة إلى التعاون والتنسيق مع الحركة الكردية في أنقرة ودمشق وبغداد لمقاومة المخطّطات الأطلسية - التركية. ومن شأن ما تقدَّم، أن يعيد بلورة الدور الكردي في الشرق الأوسط بطريقة أكثر وضوحاً.
يأمل «العدالة والتنمية» أن يدفع الأكراد إلى اتخاذ مواقف «مرنة» من الانتخابات الرئاسية


2- منذ إعلان «حزب الاتحاد الديموقراطي» إنشاء «الإدارة الذاتية» في عام 2014، لم يعرف الأكراد في هذه «الكانتونات» الاستقرار، الذي بدأ بالاهتزاز والتفسّخ مع قيام تركيا بأوّل عملية تدخُّل عسكرية مباشرة في 24 آب 2016 («درع الفرات»)، احتلّت بموجبها المنطقة الممتدّة من جرابلس إلى إعزاز فالباب، شمال غرب حلب. ولاحقاً، قامت بثلاث عمليات أخرى، هي: «غصن الزيتون» و«نبع السلام» و«درع الربيع» التي أسفرت عن احتلال المزيد من المناطق السورية في عفرين وشمال شرق الفرات. ومنذ أكثر من شهرَين، تتوالى التهديدات من أنقرة باحتمال إقدامها على عملية جديدة في منطقتَي منبج وتل رفعت. وفي خضمّ هذه الظروف المتقاطعة، ترى «وحدات حماية الشعب» الكردية نفسها مهدَّدة في كلّ لحظة بتقليص رقعة سيطرتها لمصلحة القوات التركية. وعلى رغم محاولات التواصل بين دمشق و«قوات سوريا الديموقراطية»، إلّا أنها لم تنجح في توحيد الجهود للتصدّي لأيّ هجوم تركي جديد، يبدو أن هدفه دحْر المقاتلين الأكراد في كلّ الشمال السوري، بدءاً من منبج وتل رفعت. ومع أن «الهواجس الأمنية» لتركيا غير واضحة في ظلّ عدم تشكيل الأكراد أيّ تهديد مباشر لها، فإن معارضة إيران العملية التركية تنطلق أيضاً من «هواجس أمنية» مقابِلة؛ إذ تعني سيطرة الأتراك على منبج وتل رفعت، تهديداً مباشراً لمدينة حلب نفسها ولجوارها الشمالي والشمالي الغربي، بما فيه بلدتَا نبل والزهراء، وانحسار نفوذ الجيش السوري وحلفائه من إيران و«حزب الله». وهذا ما أضاف تعقيداً إلى المشهد الميداني.
3- المحطّة الثالثة الكردية، هي انعقاد المؤتمر العام الخامس لـ«حزب الشعوب الديموقراطي» في تركيا، والذي تعتبره أنقرة مجرّد جناح سياسي لـ«الكردستاني». وعلى الرغم من تمثُّل الحزب في البرلمان التركي بـ56 نائباً، فإنه يتعرّض، منذ آخر انتخابات نيابية عام 2018، لمضايقات واعتقالات لنوابه ورؤساء بلدياته وإعلامييه ومناصريه، بتهمة دعم «الإرهاب». وتزداد الضغوط عليه مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية بعد نحو السنة، بالنظر إلى أن موقف قاعدته مهمّ جدّاً لجهة ترجيح فرصة هذا المرشّح أو ذاك. ومع أن الحزب هو أقرب إلى المعارضة، لكنه لن يمنح أصوات قاعدته مجّاناً لأيّ مرشّح لا يتجاوب مع المطالب الكردية بنسبة أو بأخرى. وشكّل انعقاد المؤتمر الخامس للحزب في أنقرة، يوم الأحد الماضي، فرصة لتظهير موقفه من الانتخابات الرئاسية؛ إذ أعاد «الشعوب الديموقراطي» انتخاب كلّ من مدحت سنجار وبيرفين بولدان رئيسَين مشتركَين له، بغالبية 806 من أصل 1050 مندوباً. وفي كلمته، دعا سنجار المعارضة إلى إنشاء «تحالف ديموقراطي» بدلاً من «تحالف الستّة» القائم حالياً والذي سينتهي، كما قال، مع انتهاء الانتخابات، فيما اعتبرت بولدان أنه «مخطئ مَن يظنّ أننا سنكون مجرّد أداة للبعض لعبور النهر». وبقدْر ما كانت بولدان تعني «لقاء الستّة»، فهي تشير أكثر إلى إردوغان، مرشّح «تحالف الجمهور»، والذي لا تزال استطلاعات الرأي ترجّح بقوّة خسارته الانتخابات الرئاسية.
وهنا، ومن أجل استمالة الصوت الكردي، ينقل عبد القادر سيلفي، الكاتب المقرّب من إردوغان، في صحيفة «حرييات»، أن الحكومة قد تسمح قريباً لبعض الأشخاص باللقاء مع عبدالله أوجالان الذي مُنعت عنه الزيارات منذ آب 2019. وقد يكون هذا الشخص شقيقه أو أحد نواب «الشعوب الديموقراطي». ويأمل حزب «العدالة والتنمية» أن يوجّه أوجالان رسالة إلى قيادة «حزب العمّال الكردستاني» وأكراد تركيا، باتخاذ مواقف «مرنة» من الانتخابات الرئاسية، أي التصويت ضمناً لإردوغان من دون أن يعني ذلك، بحسب سيلفي، عملية انفتاح جديدة تستنسخ عملية الانفتاح السابقة التي انهارت في عام 2015. من جهته، يكتب النائب المعارض، مصطفى بلباي، أن الحزب الحاكم يعمل على خطّين: الأوّل، محاصرة «حزب الشعوب الديموقراطي» وعزله وإضعافه إلى أقصى حدٍّ ممكن؛ والثاني، استمالته، من خلال الانفتاح على بعض المطالب ومنها استخدام اللغة الأمّ وتعريف جديد للمواطنة والحُكم الذاتي.
وعلى رغم الضغوط الداهمة التي يشكّلها الاهتزاز الاقتصادي التركي كما الحرب في أوكرانيا، فإن العامل الكردي يبدو محور الحركة التركية من الاتفاق مع السويد وفنلندا، إلى العملية العسكرية في شمال سوريا، وصولاً إلى اتّجاهات الصوت الكردي في الداخل، وسط شعور دائم بأن الوجود الكردي يبقى مستهدفاً أو مستغَلاً لمصالح يخرج من موْلدها دائماً بلا حمّص.