نجحت تل أبيب، أخيراً، في تسجيل بعض الإنجازات التكتيكية، عبر تنفيذ عدّة عمليات اغتيال ضدّ خبراء ومسؤولين إيرانيين. وهذه نتيجة يَجدر الإقرار بها في مرحلة انتظار الردود الوقائية والاستباقية الإيرانية، والتي باتت تمثّل تحدّياً أمام الأجهزة التنفيذية، لتوسيع نجاحها من نطاق معادلات الردع الاستراتيجي إلى الجانب التكتيكي، الذي قد تُشوّش بعض إخفاقاته على صورة الإنجازات الاستراتيجية التي حقّقتها طهران حتى الآن، في المجالات النووية والعسكرية والإقليمية. في المقابل، لم تنبع المخاوف التي عبّر عنها رئيس مجلس الأمن القومي السابق، اللواء غيورا آيلاند، من مخاطر السياسة العملياتية التي تنتهجها إسرائيل حالياً، من فراغ، وإنّما هي ترجمة للعِبر المستخلَصة من مراحل سابقة من الصراع، ومن مجمل ما استقرّت عليه موازين القوى الإقليمية، إذ عبَّر آيلاند عن خشيته من تداعيات توسيع نطاق الضربات الإسرائيلية، مُتوجِّهاً إلى مُحاوره بالقول: «أنا خائف مثلك تماماً»، طارحاً علامات استفهام عدّة حول أهمّية النتائج بالقياس إلى ما تريده إسرائيل، وأولوياتها في هذا المسار، وما سبق لها أن حقّقته فيه. ومن أجل استكمال عملية التقييم، تَحضر الأسئلة نفسها على الجانب الإيراني أيضاً، ربطاً بما تريده إيران، وما كانت عليه في السابق وأين أصبحت اليوم، ومدى تأثير الضربات الأخيرة على مجمل مسارها.لقد خلص آيلاند، الذي سبق له أن رأس مؤسّسة مهمّتها بلورة الخيارات الاستراتيجية والعملياتية أمام المجلس الوزاري المصغّر ورئيس الحكومة ومقاربتها من زوايا الكلفة والجدوى والمخاطر والقيود، إلى نتيجة خطيرة تتلخّص بـ«أنهم في إسرائيل دائماً ما يستبشرون بنجاحٍ موضعي ما، لكنهم ليسوا بالضرورة أذكياء من الناحية الاستراتيجية» (يديعوت أحرونوت 31/5/ 2022). تستبطن هذه النتيجة تحذيراً من أن تلك الإنجازات عادةً ما تدغدغ مشاعر الرأي العام، إلّا أنها قد تحجب حقائق أكثر خطورة تتّصل بالفشل الاستراتيجي، الذي يرتكز، في بعض وجوهه، على فشل تكتيكي أكثر خطورة، وحصانة إجمالية يتمتّع بها الطرف المقابل، وقوّة ردع استراتيجي حالت دون خيارات عملياتية صاخبة (عدوان عسكري مباشر) يُفترض أنها أكثر جدوى. ولذلك، في اختبار النتائج، لم تنجح إسرائيل في إحباط البرنامج النووي الإيراني، لا بوسائل تكتيكية ولا على المستوى الاستراتيجي. كما لم تنجح، ومعها الولايات المتحدة، في الحؤول دون تطوّر إيران العلمي والتكنولوجي والعسكري، فضلاً عن إخضاعها أو إجبارها على التخلّي عن ثوابتها السياسية. وقدَّم آيلاند للقادة الإسرائيليين نموذجاً عملياتياً فاشلاً، وقريباً زمنياً، كي يستخلصوا منه العِبر، مُذكِّراً بالخيار الذي اعتمدته تل أبيب في استهداف السفن الإيرانية وهي في طريقها إلى سوريا، بطريقة مدروسة، على أمل أن لا تستدرج طهران إلى ردود صاخبة. لكن عندما قرّرت إيران، في محطّة محدَّدة، الردّ المتناسب على تلك الاعتداءات حتى ولو أدّى إلى تصعيد واسع، انكفأت إسرائيل انطلاقاً من تقدير خلُص إلى أن الاستمرار في المعركة سيعود عليها بأضرار بالغة على المستويَين الاقتصادي والعسكري. وهكذا، كرّست إيران معادلة ردع عبر البحار في مواجهة الأطراف كافّة، خصوصاً أنها بادرت أكثر من مرّة إلى الردّ بالمثل على اعتداءات تعرّضت لها سفنها، سواءً من بريطانيا أو اليونان أو غيرهما.
مسار عمليات الاغتيال والتفجير التي تعرّضت لها إيران طوال السنوات الماضية، لم يكن إسرائيلياً بالكامل


وفي ما يتعلّق بالجولة الحالية، بدأت مؤشّرات ما حذّر منه آيلاند تتّضح، عندما تَوجّه وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، و«هيئة مكافحة الإرهاب» إلى الإسرائيليين بالطلب بعدم السفر إلى تركيا، وتحديداً إلى إسطنبول، في ما يمثّل إنذاراً استخبارياً بوجود مخاطر ملموسة قد يتعرّض لها هؤلاء في هذا البلد. وهو ما عزّزه، أمس، مستشار الأمن القومي، إيال حولتا، بتأكيده أن «ثمّة تهديداً فعلياً لكلّ إسرائيلي موجود في إسطنبول» (انتقد رئيس مجلس الأمن القومي السابق، اللواء يعقوب عميدرور، إجراء منع السفر، وقال إن قرارات كهذه لا يتمّ اتّخاذها إلّا في حالات الحرب). مع ذلك، فإن الضرر الذي تَتسبّب فيه إسرائيل لإيران، وإن كان غير كفيل بإيقاف مسارها، إلّا أنه في الوقت نفسه لا يُستهان به، ولا سيما أنه يمسّ بصورة طهران وقدرتها على الردع، في ظلّ حملات إعلامية ضخمة تُواكب مثل هذه الضربات، وتفعل فعلها في معركة الوعي. ولعلّ هذا التقدير حضر أيضاً في خلفية كلام آيلاند، عندما قال إن «توسيع حدود المعركة من النطاق النووي الى أهداف عادية، وإن كان يبدو نجاحاً جميلاً، إلّا أنه ليس مؤكّداً أنه صحيح من ناحيتنا»، محذراً من أن إيران تتّجه كي تكون «أكثر استعداداً لتحمُّل مخاطر أكبر»، ومُذكّراً بأن «لديها القدرة على إلحاق الأذى بإسرائيل ولا نريد تفاقم هذا الوضع»، في تنبيه إلى أن إسرائيل قد تجد نفسها أمام خيارَين: إمّا الانكفاء كما حصل في مواجهة البحر، أو التصعيد نحو سيناريوات ليست في مصلحتها.
يبقى أن مسار عمليات الاغتيال والتفجير التي تعرّضت لها إيران طوال السنوات الماضية، لم يكن إسرائيلياً بالكامل، بل اشتركت فيه تنظيمات إيرانية معادية للنظام، ولها وجودها وقدرتها على التحرّك في الداخل. كما أن هذه الاعتداءات لا يمكن أن تستمرّ وتتطوّر من دون ضوء أخضر أميركي، وحتى مشاركة في القرار وربّما في التنفيذ، كجزء من الضغط الممارَس على إيران، بعد وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود. ويؤشّر ذلك إلى مفاعيل تحالف استخباراتي إقليمي ودولي، عادةً ما تتمّ الإشارة إليه في مراحل الهدوء الأمني، فيما يخبو ذكره في مراحل التوتّر، علماً أنه يمثّل عنصرَ قوّة إضافياً لمصلحة تل أبيب في اتّجاهَين: الأوّل يتعلّق بالتخطيط والمدد اللوجستي والتنفيذ، والثاني بالسعي المشترك لاحتواء أو إحباط محاولات الردود.