في ظلّ تعالي نبرة التهديد بين إيران وإسرائيل، على وقع تعثُّر مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاق النووي، تدور حربٌ كلاميّة وأخرى عمليّة بين الجانبين تُنذر بالتصاعد في غير ساحة، خصوصاً بعد تبنّي حكومة نفتالي بينت استراتيجية جديدة تقوم على استهداف «رأس الأخطبوط» بدلاً من «أذرعه»، ولا تتوقّف عند استهداف البرنامج النووي أو مَن هم على صلة مباشرة به فحسب، بل تتعدّاه لتشمل برنامجَي الصواريخ والطائرات المسيّرة، وتحجيم النفوذ الإيراني الممتدّ في المنطقة. في الموازاة، شكّل تبنّي مجلس محافظي «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، أخيراً، مشروع قرار ينتقد إيران، محطّة مهمّة في كواليس الصراع القائم، والذي تعتبر اتفاقات التطبيع الخليجية - الإسرائيلية أحد أهمّ أسباب تصاعده، لدورها في محاولة تطويق هذا البلد بمنظومات رادارية.واستناداً إلى وعده بتنفيذ سياسة «القتل بألف طعنة»، وافق رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينيت، في ما يَظهر، على هذه الهجمات (من بينها اغتيال الضابط البارز في الحرس الثوري الإيراني، العقيد حسن صياد خدايي في 22 أيار). حادثةٌ تضاف إلى عمليّات الاغتيال والتخريب الأخيرة، التي شملت هجمات إلكترونية، وهجوماً على مستودع سرّي للمسيّرات في 14 شباط، والوفاة المشبوهة لمهندس في موقع عسكري كبير لتطوير الصواريخ في 24 أيار، ووفاة إيرانيَّين يعملان في القطاع الجو-فضائي، أحدهما عنصر في الحرس الثوري الإيراني ويدعى علي كماني، والآخر موظّف في وزارة الدفاع وهو محمد عبدوس، في حادثَين منفصلين أثناء قيامهما «بمهمّة» في وسط البلاد، وفق الرواية الرسمية. وقبل أيّام، لمّح بينت إلى مسؤولية إسرائيل، قائلاً أمام «لجنة الشؤون الخارجية والدفاع» في الكنيست: «لقد ولّت الأيّام التي تقوم فيها إيران بإيذاء إسرائيل مرّة بعد أخرى، وتنشر الرعب عبر أذرعها في المنطقة، وتخرج من دون أن تصاب بأذى... نحن نعمل في كلّ مكان، وبدوام كامل، وسنواصل القيام بذلك». وعلى رغم أن هذا التصريح كان محلّ انتقاد من جانب المستوى الأمني، الذي يفضّل «العمل بصمت»، يَظهر أن أهمّ ما يميّز هذا «الإنجاز» هو تمكُّن حكومة بينيت من إقناع إدارة جو بايدن بضرورة عدم إزالة الحرس الثوري من قائمة وزارة الخارجية الأميركية للمنظمات الإرهابية. وفي الموازاة، نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مصادر إيرانية، قولها إن طهران تعتقد أن إسرائيل قامت بتصفية عالمَين إيرانيين عن طريق تسميم طعامهما في أيار الماضي. وبحسب المصادر، فإن الضحيتَين هما: مهندس طيران عمل في مركز عسكري للأبحاث، أيوب انتظاري، والعالم الجيولوجي، كمران أغملائي.
تستمرّ إسرائيل في المطالبة بـ«التخصيب الصفري»، والركون إلى «الخطة باء»


وإذ تنجح إسرائيل في «خلْق حالة من الفوضى والارتباك في صفوف النظام الإيراني»، وبما يُعزّز أيضاً الصورة الأمنية لرئيس الوزراء داخلياً، في وقت تتعرّض حكومته الائتلافية لخطر الانهيار، فإن حقيقة البرنامج النووي الإيراني، التي تمّ الكشف عنها في السادس من حزيران الجاري خلال اجتماع مجلس محافظي «الطاقة الذرية»، تميط اللثام عن عمْق التقدّم الإيراني في هذا المجال، على رغم الجهود الإسرائيلية لإفشال ذلك، وفق ما يورد داني سيترينوفيتش في معهد «أتلانتك كاونسل». وفي مواجهة ما تقدَّم، تستمرّ إسرائيل في المطالبة بـ«التخصيب الصفري»، والركون إلى «الخطة باء». لكن «استمرار العقوبات الاقتصادية والعمليات السرّية المختلفة والتهديد بقصف المنشآت النووية، لم يوقف البرنامج النووي الإيراني ولم يغيّر اتّجاهه، ولن يفعل في المستقبل»، بحسب الكاتب الذي يلفت إلى أن «مفهوم عصْر ترامب للضغط الأقصى، لم يَعُد يعمل في عالمٍ يفتقر إلى النفط، ومستعدّ لتجاوز العقوبات. توضح هذه الحقيقة عائدات إيران من صادرات النفط في ظلّ نظام العقوبات الحالي»، بعدما وسّعت الحرب الأوكرانية «تحالف الخاضعين للعقوبات». لذا، بينما تستمرّ إسرائيل في التمتُّع بـ«نجاحات تكتيكية مثيرة للإعجاب، من الناحية الاستراتيجية»، فإنها لم تحقّق هدفها القاضي بمنْع إيران من امتلاك برنامج نووي متقدِّم. فهي لا تزال، يقول سيترينوفيتش، «تحتفظ بعقلية عمرها عقد من الزمن، من دون أن تفهم أن العالم قد تغيّر، وأن برنامج إيران النووي - على وجه التحديد - تطوّر كثيراً (...) بعدما نجحت إيران في تجاوز الحواجز التكنولوجية الكبيرة، لا سيما في مجال التخصيب وإنتاج أجهزة الطرد المركزي. فالمعرفة في إيران واسعة وموجودة في أذهان عدد لا يحصى من العلماء النوويين - أكثر بكثير من أن يتمكّن أحد من القضاء عليهم. والأسوأ من ذلك، أنه حتى لو اختفت المنشآت النووية بأعجوبة غداً، ستكون إيران قادرة على إعادة بنائها في غضون بضعة أشهر».
بالنظر إلى هذه الحقائق، «لا تحقِّق إسرائيل سوى انتصار باهظ الثمن على إيران. وفي أحسن الأحوال، يمكن الهجمات الإسرائيلية أن تعطّل البرنامج. أما في أسوأ السبناريوات، فهم يحفّزون إيران على التحرّك بشكل أسرع». من هنا، يدعو الكاتب، إسرائيل إلى «إعادة حساب وتبنّي استراتيجية تتوافق مع الوضع الحالي للبرنامج النووي الإيراني». ويخلص إلى القول إن «إسرائيل تكدِّس نجاحات تكتيكية، بينما استراتيجيتها تجاه إيران تفشل، لأن هناك فجوةً متنامية بين تصريحات كبار المسؤولين فيها والواقع على الأرض. على هؤلاء أن يتذكّروا أن حشْر إيران في الزاوية وتغيير معادلة الردع القائمة، من شأنهما أن يؤدّيا إلى ردّ حادّ من جانب طهران، قد ينتهي بمواجهة إقليمية».