عشيّة اجتماع مجلس محافظي «الوكالة الدولية للطاقة الذرّية»، والذي يُتوقّع صدور قرار - أو على الأقلّ - بيان إدانة ضدّ إيران خلاله، حطّ رفائيل غروسي في تل أبيب، حيث زكّى مجدّداً الادّعاءات الإسرائيلية بخصوص برنامج إيران النووي، و«بارك»، بحضوره، تهديدات نفتالي بينت الجديدة لطهران. مشهديّةٌ لا تبدو البتّة منفصلة من سياق حملة إسرائيلية - أميركية - غربية محتدمة، بهدف تصعيد الضغوط على الجانب الإيراني، ودفْعه إلى تقديم تنازلات على طاولة التفاوض، إن لم ترتقِ إلى الحدّ الذي تريده تل أبيب تعجيزياً، فعلى الأقلّ تتيح لواشنطن القول إنها فرضت تنازلات على الإيرانيين، واستطاعت في الوقت نفسه تأمين ضمانات لصالح حلفائها
أنهى مدير «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، رفائيل غروسي، أمس، زيارة وُصفت بـ«المفاجئة» إلى إسرائيل، أريد لها، على ما يبدو، أن تكون واحدة من أدوات الضغط على الجانب الإيراني، في ظلّ تعثّر المفاوضات غير المباشرة بين طهران وواشنطن للعودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015، والخشية من خطوات تصعيدية إيرانية تُقرّب طهران من القدرة النووية العسكرية، كنتيجة متوقّعة لذلك التعثّر. وتُعدّ الزيارة بهذا المعنى، مع ما حملته من تهديدات إسرائيلية، جزءاً من الحملة الترويجية لسلّة الضغوط العبرية، والتي تريد تل أبيب من واشنطن أن تتبنّاها بالكامل، تمهيداً للتوصّل إلى اتّفاق مغاير للمسوّدة التي كادت الأطراف تُوقّع عليها، على رغم إدراك الولايات المتحدة مسبقاً استحالة تَحقُّق الشروط المطروحة إسرائيلياً.
وفي هذا الإطار، هدّد رئيس حكومة العدو، نفتالي بينت، خلال لقائه غروسي، بأن «إسرائيل تحتفظ بحقّ الدفاع عن النفس، والتحرّك ضدّ إيران لوقف برنامجها النووي إذا فشل المجتمع الدولي في القيام بذلك، في إطار زمني مناسب». ويأتي ذلك في سياق حملة إسرائيلية ضدّ طهران، لا يُستبعد أن تكون واشنطن هي التي حرّكتها، ادّعت فيها تل أبيب إخفاء الجانب الإيراني معلومات عن ثلاثة مواقع نووية، و«سرقته» وثائق سرّية من الوكالة، واستخدامها لخداع مفتّشين دوليين منذ نحو عقدَين، وهي ادّعاءات وصفتها إيران بـ«الكاذبة». إلّا أنه، وعلى خلفية تعثّر المفاوضات النووية، تبنّت «الطاقة الذرّية» الادّعاءات الإسرائيلية، ممهّدة الطريق لإدانة طهران في اجتماع مجلس محافظي الوكالة بين السادس والعاشر من الشهر الحالي، حيث يعتزم الأميركيون والأوروبيون طرح مشروع قرار في الاتّجاه المذكور.
وتسوّق إسرائيل، في مرحلة تجميد التفاوض، لخريطة طريق مشبعة بشروط من شأنها تقييد إيران نووياً، تريد من «المجتمع الدولي» أن يعتمدها قبل استئناف المحادثات، وهي تتركّز على بنود رئيسة ثلاثة:
- يحصل الإيرانيون على تخفيف للعقوبات كما هو منصوص عليه في اتفاق 2015.
زيارة مدير «الطاقة الذرّية» لإسرائيل جزء لا يتجزّأ من حملة الضغط على طهران في زمن اللاتفاوض


- يكون الاتفاق دائماً ومن دون أيّ مدّة انقضاء، أي أن القيود المفروضة على برنامج إيران النووي ستكون دائمة ولا تتحدّد بفترة زمنية.
- في حال خرقت إيران التزاماتها، تُفرَض عليها «حزمة من العقوبات» أضخم من تلك التي فُرضت على روسيا، في أعقاب الحرب على أوكرانيا.
إزاء ذلك، يبدو واضحاً أن الضغوط الكلامية والإجرائية المُفعّلة أخيراً ضدّ البرنامج النووي الإيراني، تأتي برضًى ودفع أميركيَّين مباشرين، وهو ما يكشف حقائق عدّة، على رأسها أن تعثّر عملية التفاوض لم يَعُد تعثّراً مؤقتاً، وأن لا حلّ لهذا الجمود قريباً، وأن ثمّة خشية فعلية لدى خصوم إيران من أن تعمد الأخيرة إلى رفع مستويات «الخرق» من جانبها، إلى حدّ البدء بعمليات تخصيب اليورانيوم بنسبة 90%، الأمر الذي يقرّبها أكثر من القدرة النووية العسكرية. إلّا أن اشتراك واشنطن وتل أبيب في التكتيك، لا يعني اتحادهما في الأهداف؛ إذ تريد الأولى، على ما يبدو، تجميد الوضع الحالي كما هو، أي أن لا تُقدِم طهران على خطوات خرق إضافية، بموازاة تعطيل المفاوضات، فيما تهدف الثانية إلى استغلال الفرصة لدفْع الإدارة الأميركية نحو تموضع مغاير على مسار التفاوض، وتبنّي شروط قاسية ومتطرّفة لتحقيق اتّفاق هو أشبه بالاستسلام في الملفّ النووي وغيره. ولعلّ هذا هو ما يفسّر خلوّ الخطّة المطروحة إسرائيلية من شروط تتجاوز البرنامج النووي، كانت تل أبيب تدأب على الترويج لها في مقارباتها السابقة، مثل البرنامج الصاروخي والطائرات المسيّرة والنفوذ الإقليمي.
بالنتيجة، زيارة غروسي هي جزء من حملة ضغط في مواجهة إيران، من شأنها التأكيد من جديد أن «الطاقة الذرّية» هي كيان أممي منساق للإرادة الأميركية؛ إذ لو كان «الكشْف» الإسرائيلي حصل في ظلّ نجاح العملية التفاوضية، لكانت الوكالة تجاهلت ادّعاءات تل أبيب، وهو ما حصل فعلاً في السابق. وتتساوق هذه الحملة مع زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى المنطقة، والهادفة إلى طمأنة الحلفاء، طالما أن تجميد المفاوضات حاصل، إلى أن تتّخذ واشنطن موقفاً متشدّداً من الجانب الإيراني، مع حفظ مصالح «الشركاء»، الأمر الذي يساهم في إنجاح الزيارة وتحقيق أهدافها.