لندن | بعد 28 يوماً من الجدل والضغوط الأميركية، ونقاشات عصيبة استهلكت اليوم الأول من قمّة للقادة الأوروبيين في بروكسل، تمكّنت أوروبا من التوافق سياسياً على حلّ وسط بين دول الاتحاد، يضمن فرْض عقوبات واسعة على تجارة تصدير النفط الروسي إلى القارّة. ويحاول الأميركيون، عبر هذه المناورة الجديدة التي ستكلّف المواطنين الأوروبيين مزيداً من تضخّم الأسعار، تقليص مصدر رئيس لتمويل ما يسمّونه «الآلة الحربية الروسية». لكن بطل الليلة الماضية كان بلا منازع رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، الذي سيعود إلى بودابست منتصراً، بعد أن نجح في تأمين مصالح بلاده من خلال الحصول على استثناء من الالتزام بالاتفاق الجديد
خضع القادة الأوروبيون للضغوطات الأميركية، وتوافقوا بعد مداولات عصيبة بينهم استمرّت حتى وقت متأخّر من مساء اليوم الأوّل لقمّتهم في العاصمة البلجيكية بروكسيل (الإثنين)، على قرار سياسي بفرض حزمة سادسة من العقوبات على روسيا، استهدفت هذه المرّة بشكل أساسي واردات النفط الروسية إلى القارّة. وسيتعيّن على المجلس الأوروبي (البرلمان المشترك لدول الاتحاد الأوروبي)، الآن، أن يوافق رسمياً على هذه الحزمة الجديدة التي تأخَّر إقرارها لـ28 يوماً منذ طرحها بداية هذا الشهر، بعد أن يتمّ إعداد النصوص القانونية التي ستُعرض على النوّاب الأوروبيين لإقرارها ربّما في وقت لاحق من الأسبوع الجاري، بحسب مصادر في بروكسل. وتشمل الحزمة، إلى حظر النفط، عقوبات أخرى، بما في ذلك فصل «سبيربنك»، أكبر بنك استهلاكي في روسيا، عن نظام «سويفت» الدولي للدفع، ومنع ثلاث محطّات بثّ روسية مملوكة للدولة من استخدام موجات الأثير الخاصة بالاتحاد الأوروبي، وحظر التأمين وإعادة التأمين على السفن الروسية من قِبَل الشركات المسجّلة في التكتّل، كما عقوبات شخصية بحقّ البطريرك كيريل، رأس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والحليف المقرّب من الرئيس فلاديمير بوتين، والذي بارك العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فضلاً عن قادة عسكريين يتّهمهم الغرب بالمسؤولية عن «جرائم حرب» تقول بروكسل إن قوّات روسية اقترفتها.
وبحسب تصريحات شارل ميشيل، رئيس المجلس الأوروبي، فإن هذه العقوبات ستطال سريعاً أكثر من ثلثَي واردات النفط الروسي إلى دول الاتحاد، وسيدخل أغلبها حيّز التنفيذ قبل نهاية العام الحالي. وتأتي هذه الخطوة الجديدة كجزء أساسي من استراتيجية أميركية لتوسيع الحصار الاقتصادي المفروض على روسيا على خلفية حربها على أوكرانيا. وترى واشنطن أن حرمان موسكو من سوقها التقليدي لتصدير النفط نحو القارّة الأوروبية سيقلّص أحد أهمّ موارد تمويل ما تسمّيه «الآلة الحربية الروسية». على أن الصيغة التي تمّ تبنّيها في النهاية من قِبَل القادة الأوروبيين لفرض هذه الجولة من العقوبات، والوقت الذي استغرقوه لذلك، عكسا في الواقع انقسامات شديدة بين تيّارات متعارضة داخل الاتحاد، لا سيّما بشأن التكاليف الإضافية التي ستترتّب على المواطنين الأوروبيين حال تنفيذها. واضطرّ القادة إلى قبول استثناءات كثيرة للعديد من الأعضاء، قبل التوافق على تسوية بدت كقطعة قماش كثيرة الثقوب. وستسمح التسوية، كما أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، لصادرات روسيا من النفط بالاستمرار بالتدفّق عبر خطوط الأنابيب إلى الاتحاد الأوروبي حتى إشعار آخر، فيما سيتمّ حظر الشحنات المنقولة بحراً بحلول نهاية العام الجاري. وكتبت فون دير لاين على «تويتر» أن اتفاق القادة «سيخفّض فعلياً نحو 90٪ من واردات النفط من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي مع نهاية العام». ومن الجليّ أن الرئيسة ذات الهوى الأميركي واجهت تحدّياً كبيراً، ودفعت بشدّة نحو التوصّل إلى أيّ اتفاق ولو بالحدّ الأدنى، لأن الفشل كان سيُطيح بحياتها المهنية، كما مستقبل زميلها شارل ميشيل.
لم تجرؤ بروكسل إلى الآن على طرح مسألة مقاطعة الغاز الروسي رسمياً


وتشمل الحزمة إعفاءات لاسترضاء هنغاريا، التي عارض رئيسها، فيكتور أوربان، فرض حظر على استيراد النفط من روسيا وغيرها من البلدان القلقة بشأن التأثير السلبي المتوقّع على اقتصاداتها ورفاه مواطنيها. وحصلت جمهورية التشيك على تأجيل لمدّة 18 شهراً بغرض منحها الوقت لإيجاد بدائل. وبحسب تصريحات لمسؤول في مكتب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، فإن بروكسل ستعمل على إيجاد حلول لاستكمال إغلاق الفرع الجنوبي من خطّ الأنابيب الروسي، والذي يخدم دول وسط القارّة - التي لا موانئ لها: هنغاريا وسلوفاكيا والتشيك - «في أقرب وقت ممكن». وسيتضمّن ذلك، في ما عُلم، مدّ خطّ أنابيب بديل من كرواتيا نحو هنغاريا، بحيث يمكن لبودابست الاستغناء عن الحاجة إلى النفط الروسي مستقبلاً. ويمكن لألمانيا وبولندا الاستفادة من الإعفاءات لواردات النفط الروسي عبر الفرع الشمالي، لكن التأثير الأميركي على عملية صنع القرار في البلدين قد تحول دون إقدامهما على هكذا خطوة، على رغم التكلفة العالية لعملية استبدال مصدّرين من الشرق الأوسط وأفريقيا بروسيا. وتشكّل واردات النفط الروسي ما لا يقلّ عن ربع كلّ ما تستورده أوروبا من النفط، الذي ما زال يشكّل عنصراً أساسياً في عجلة الإنتاج والنقل والحياة اليومية عبر القارّة. كما أن العديد من الدول - مثل هنغاريا - تحصل عليه بأسعار تفضيلية، قد يستحيل عملياً الحصول على مِثلها من مكان آخر، في وقت ما زالت فيه أغلب الاقتصادات الأوروبيّة الأصغر تترنّح من آثار عقْد من التقشّف ومترتّبات جائحة «كوفيد 19».
وبالنظر إلى الاتفاق الأوروبي بصورته الكلّية، فهو يبدو أقرب إلى الهزيمة منه إلى الانتصار. إذ إن روسيا التي تصدّر إلى أوروبا حوالى نصف مجمل إنتاجها النفطي (47 في المائة)، ستكون حتماً أقلّ تأثّراً بهذه الحزمة السادسة من العقوبات مقارنة بجيرانها الأوروبيين، خصوصاً أنها تمكّنت بالفعل من إيجاد أسواق بديلة في آسيا، فضلاً عن أن تضاعف سعر النفط خلال الأشهر الثلاثة الماضية قد يكون كفيلاً بتعويض تقلّص حجم الكميّات المصدَّرة إلى حدّ ما. في المقابل، سيضطرّ الأوروبيّون إلى التفاوض مع مورّدين جدد، قد لا يمتلكون القدرة أو الرغبة في إمدادهم فورياً بحجم مضاعَف منتظِم من الإنتاج. كما من المحتّم أن تزداد قيمة فاتورة المشتريات بشكل ملموس، فيما سيأكل التضخّم من أرباح الشركات ودخول المواطنين على حدّ سواء، ما قد يؤدّي بالكثير من المؤسّسات التجارية والصناعية الكثيفة الاعتماد على النفط، إلى حافّة الإفلاس خلال وقت قياسي، ناهيك عن خلْق مناخ مؤاتٍ لاضطرابات سياسية واجتماعية. ومن هنا، لم تجرؤ بروكسل إلى الآن على طرح مسألة مقاطعة الغاز الروسي رسمياً، وأقفلت المفوضيّة سريعاً النقاش في هذه القمّة حول حزمة سابعة من العقوبات أراد الأميركيون طرحها عبر ليتوانيا، خشية تعميق الشقاق داخل الاتحاد الذي بالكاد لملم نفسه لإقرار الحزمة السادسة، وهذا كلّه يشير إلى تحدّيات لوجستية وسياسية هائلة تجعل من المقاطعة الأوروبية الشاملة لروسيا، في ظلّ الشروط الموضوعية الحالية، تفكيراً رغائبياً.
لكن المنتصر الوحيد في كلّ همروجة حظر النفط الروسي هذه، كان بكلّ تأكيد رئيس الوزراء الهنغاري، الذي نجح وحيداً في عرقلة التوصّل إلى اتفاق شامل لحوالى الشهر، واضطرّ قادة الاتحاد الأوروبي في النهاية لتجنّب الإحراج وحفظ ماء الوجه، إلى منحه استثناءً تامّاً من الحظر. واعترف مسؤولون أوروبيون وديبلوماسيون تحدّثوا إلى الصحافة على هامش القمّة، بأن أوربان، الذي يتمتّع بهيمنة شبه تامّة على القرار في بلاده، نجح في وضع مصالح الشعب الهنغاري فوق الجهود الأميركية الرامية إلى بناء جدار حديدي جديد حول روسيا. ونُقل عن أحدهم قوله: «إذا نظرْتَ إلى قضية الشهر بأكمله، فنعم، إنه أوربان. لقد حصل على الكثير، وأبقى الجميع رهائن عند إرادته». ولم يكتفِ أوربان بذلك فحسب، بل وعاد إلى بلاده ليحتفل بعيد ميلاده التاسع والخمسين، وهو يحمل في جيبه ضمانات من بروكسل بتوفير إمدادات بديلة طارئة لبودابست، إذا تعطّلت شحنات خطوط النفط الروسي المارّة ببلاده لأيّ أسباب.