مثّل فوز حسن شيخ محمود برئاسة الصومال، في منتصف أيار الجاري، بعد ماراثون انتخابي ممتدّ بين «تأجيلات» متكرّرة ومساعي فرض أمر واقع منذ شباط 2021، حدثاً استثنائياً في إقليم القرن الأفريقي الذي تضربه الفوضى السياسية والأمنية منذ أكثر من عامين. وعزّز هذه الاستثنائية فوزُ محمود بأغلبية ملفتة بلغت الثلثين تقريباً (214 مقابل 110) في مواجهة مُنافِسه الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو. ويواجه الرئيس الجديد أجندة محلّية مزدحمة بملفّات اقتصادية وأمنية وسياسية، وأخرى خارجية حرجة، علماً أنه سبقت له إدارة البلاد ما بين عامَي 2012 و2017، حيث انتهج سياسة افترق عنها لاحقاً فرماجو، الذي كان شيخ محمود من أبرز معارضي سياساته في السنوات الأخيرة، ولا سيّما حيال إثيوبيا التي أمدّ نظامَها بآلاف الجنود للقتال في صفوف قوّاته في حرب تيجراي.
المائة يوم الأولى
أعلن شيخ محمود، بعد أيام قليلة من فوزه، عن القضايا الأساسية التي ستشغله في «المائة يوم الأولى» (من 22 أيار حتى نهاية آب)، وتشمل التركيز على الأمن والاستقرار السياسي والتعافي الاقتصادي، ووضع إطار قانوني لتحقيق هذه الأهداف، وإكمال عملية الإعفاء من الديون (البالغة نحو 1.2 بليون دولار). وفي ضوء التعقيدات الأمنية التي جرت فيها الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وما تؤشّر إليه من خطورة فقدان الدولة هيمنتها، شدّد الرئيس على ضرورة بناء أجهزة الأمن على أساس فيدرالي، لكن تحقيق ذلك يظلّ مرهوناً بتحدّيات جسيمة، على رأسها وجود ولايات ساعية إلى الاستقلال كـ«أرض الصومال» و«بونتلاند»، وتصعيد جماعة «الشباب» الإرهابية عملياتها في الأشهر الأخيرة، مع ملاحظة أنّ الجماعة حاولت اغتيال شيخ محمود أكثر من مرّة خلال رئاسته السابقة. كذلك، يَمثل أمام الرئيس الجديد تحدّي النهوض من تأثيرات الصدمات المتكرّرة منذ عام 2019 (الجفاف والفيضانات وجائحة كورونا)، وتراجع نموّ الناتج المحلّي عام 2020 إلى 1.5% فقط مع استمرار عجز التجارة الهيكلي ومعاناة سبعة من كلّ عشرة صوماليين من الفقر المدقع (أقلّ من 1.9 دولار في اليوم)، وبلوغ الديون الخارجية المستحقّة على الصومال نحو 55% من إجمالي ناتجه القومي، ما أهّله للإعفاء من الديون، والذي من المتوقّع البدء به بحلول عام 2024. كما ستُلقى على عاتق شيخ محمود مهمّة رفع نسبة العائدات المحلية الصومالية في تمويل الموازنة، ورفع إجمالي الاحتياطي من العملة الأجنبية، والذي لا يمثّل سوى 1.4% من الناتج المحلّي الإجمالي (2020).

الرافعة الأميركية
لعبت الولايات المتحدة دور الضاغط الدولي الأكبر للحيلولة دون تمديد ولاية فرماجو عامَين آخرين بعد شباط 2021، وحثّ الأطراف السياسية الصومالية على إتمام الانتخابات البرلمانية والرئاسية وتجاوز عقبات لوجيستية متكرّرة أمامها. وما عزّز مفعول الضغط الأميركي، تحديد «صندوق النقد الدولي» تاريخ الـ17 من أيار كموعد نهائي لقيام حكومة فيدرالية جديدة، كشرط لحصول البلاد على مخصّصات برامج الصندوق أو فقدها حال عدم الالتزام بذلك. وبعد إعلان فوز شيخ محمود بساعات، اعتبر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أنّ الصومال لديه الآن فرصة «للتركيز على الإصلاحات السياسية والاقتصادية والأمنية الضرورية»، فيما وقّع الرئيس جو بايدن أمراً يرخّص للجيش إعادة نشر مئات من عناصر قوات العمليات الخاصة داخل الصومال، في تراجع عن قرار سلفه دونالد ترامب سحب نحو 700 جندي أميركي من هذا البلد. كما وافق بايدن على طلب «البنتاغون» «سلطة الاستعداد» لاستهداف نحو عشرة من قادة «الشباب» المشتبه بهم، على رغم فشل التدخّل الأميركي، طوال 15 عاماً، في إنهاء الجماعة، بل واستجلابه تصاعد الصراع، في ظلّ غياب الجهود الديبلوماسية والسياسية المجدية. وبينما أوضح مسؤولون أميركيون (18 أيار) أن القرار جزء ممّا وصفوه بـ«الوجود الدائم»، «لأن تكلفة الانتظار لفترة أطول ستكون مرتفعة»، تكشّف لاحقاً، بحسب شروحات باتريك هوستد، الناطق باسم قيادة أفريقيا الأميركية، أن وجود القوات الأميركية في الصومال سيقتصر على «الإرشاد والمساعدة والتدريب»، ولن يشمل الانخراط القتالي المباشر في عمليات مواجهة الإرهاب. وعلى رغم أهمية هذا التوضيح، إلّا أن الخبراء ينبّهون إلى أن جميع مهامّ القوات الأميركية في أفريقيا تبدأ على النحو المذكور، ثمّ تتحوّل لاحقاً إلى اشتباكات قتالية على الأرض.
يُتوقّع أن يشكّل انتخاب شيخ محمود بدايةً لعملية «إعادة تشكيل علاقات الصومال مع إثيوبيا وإريتريا»


سيناريوات السياسات الإقليمية
توقّع محلّلون غربيون أن يشكّل انتخاب شيخ محمود بدايةً لعملية «إعادة تشكيل علاقات الصومال مع إثيوبيا وإريتريا»، في ضوء صلات الأوّل الوثيقة مع «جبهة تحرير تيجراي» (التي كانت حاكمة لإثيوبيا في عهده). وتكتسب هذه المقاربة أهمية بالتزامن مع الحديث حول احتمال تجدّد الصراع بين إقليم تيجراي وإريتريا، وعزم «الجبهة» مهاجمة العاصمة أسمرا. كما يلفت محلّلون إلى دلالات مبادرة رئيس «تحرير تيجراي»، دبرتصيون جيبريمايكل، إلى تهنئة الرئيس الصومالي وإعلان استعداده «للتعاون من أجل استقرار القرن الأفريقي ككلّ، والبناء على العلاقات السابقة الممتازة». ومن المرجّح أن يؤدّي وصول شيخ محمود إلى الرئاسة إلى تحجيم نفوذ الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، في الصومال، وإيقاف المدّ الاستخباراتي الإريتري في الإقليم، والذي كان شهد طفرة بعد توقيع الاتفاق الأمني بين إريتريا وإثيوبيا والصومال في عام 2018، ومكّن أفورقي من نشر ضبّاط استخبارات إريتريّين في الصومال (وإثيوبيا). أمّا في كينيا، فقد سادت أجواء ترحيب بسقوط فرماجو، لعدّة اعتبارات من بينها سياسات الأخير المنحازة إلى إثيوبيا، وخبرة الرئيس الحالي في ملفّ مواجهة الإرهاب جنوبي الصومال تحديداً (والذي تُوليه نيروبي أهمية فائقة لتداخله مع عدد من أزماتها الداخلية).

مصر وإثيوبيا: رأساً برأس
لم يحظَ انتخاب شيخ محمود باهتمام مصري رسمي على الفور، بينما جاء لقاء رئيس الوزراء، محمد حسين روبلي، بسفير مصر في مقديشو، بعد أربعة أيام من إعلان نتيجة الانتخابات (19 أيار)، وهو ما يؤشّر إلى احتمالَين متناقضَين: أوّلهما تريّث القاهرة في الإقدام على أيّ خطوات ريثما يبادر الرئيس الصومالي إلى تقديم تطمينات كافية إلى جدّيته في تمتين العلاقات بين البلدين؛ وثانيهما الترتيب الجيّد لحزمة من التفاهمات العملية، بعد تراجع حكومة فرماجو مراراً عن تنفيذ التزاماتها مع القاهرة على خلفية ضغوط إثيوبية واضحة (يعزّز الفرضية الأخيرة انخراط روبلي في ملفّ العلاقات المصرية الصومالية بشكل ملموس في العامين الأخيرين تقريباً). وأيّاً يكن، يتوقّع مراقبون صوماليون ازدهار العلاقات مع مصر في الفترة المقبلة، انطلاقاً من عدّة اعتبارات أبرزها رغبة الرئيس الجديد في الاستفادة من المساعدة المصرية في الملفّ الأمني - سواءً في شكل مساعدات عسكرية أو نقل خبرات في مواجهة الإرهاب -، وإمكانية أن تشكّل مصر حليفاً «موثوقاً ومستداماً» للصومال استناداً إلى تراكم صلاتها بنخب صومالية متنوّعة على امتداد العقود الماضية، فضلاً عن الزخم الناتج من حلحلة الأزمة الخليجية، وتحرّر القاهرة (ومقديشو بطبيعة الحال) من سلبيات استقطاباتها. في المقابل، تحظى إثيوبيا، كـ«شريك استراتيجي» للصومال، بقبول نخبوي في الأخير، بحُكم الارتباطات الإقليمية وما طرحته إثيوبيا وإريتريا في الأعوام الأخيرة من أطر للتعاون الإقليمي في القرن الأفريقي، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. ويرى مراقبون صوماليون إلى ضرورة تمتين هذه العلاقات، كونها ستؤدي إلى تحسّن التنمية وتعزيز مبادرات بناء السلام الإقليمي (في القرن الأفريقي والبحر الأحمر)، معتبرين أن الإقليم ليس أمامه خيار سوى «التكامل والتعاون»، لا سيّما أنّ إثيوبيا تحتفظ بنحو أربعة آلاف جندي من «قوات حفظ السلام الأفريقية» في الصومال.