على رغم التداعيات الاقتصادية بالغة السلبية عليها، تُواصل تركيا حصد فوائد سياسية من الحرب الروسية - الأوكرانية، لا في ما يتّصل بقيادة وساطة مستمرّة بين موسكو وكييف فحسب، بل وأيضاً في استغلال الظرف من أجل «إصلاح العلاقات» مع الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار، يبرز الإعلان عن تشكيل «آلية استراتيجية» جديدة بين أنقرة وواشنطن، كمؤشّر إلى تطوّر «إيجابي» في مسار هذه العلاقات التي كانت شهدت توتراً، مردّه مصلحة مشتركة في ذلك، خصوصاً من جانب الأميركيين، الذي يعتقدون أن مجرّد الدعم التركي المعنوي لأوكرانيا، يصبّ في صالحهم
ذكّر سقوط رئيس حكومة باكستان، عمران خان، بـ«انقلاب أبيض» في البرلمان، الأتراك، بالانقلاب الأبيض الذي قاده العسكر على حكومة نجم الدين أربكان، عام 1997، والضغط الذي مارسوه على نواب من «حزب الطريق المستقيم»، برئاسة طانسو تشيللر، من أجل نقل الأكثرية من كفّة إلى أخرى. ربّما لم تكن أنقرة بحاجة إلى وصول أصداء الغضب الأميركي من إسلام أباد إليها، لكي تحاول «تصحيح» العلاقات مع واشنطن، في غمرة الاستعدادات التي ستمتدّ لسنة، للانتخابات الرئاسية العام المقبل. فبعد العديد من المواقف الرمادية تجاه الأزمة الأوكرانية، بدأت رحلة الألف ميل التركية مع الولايات المتحدة، يوم الرابع من نيسان الحالي، من خلال إطلاق إشارة العمل بما سُمّي «الآلية الاستراتيجية» بين البلدين. وتُعنى هذه الآلية، التي يرأسها من الجانب التركي، المتحدّث باسم رئاسة الجمهورية، إبراهيم قالن، ومن الجانب الأميركي، مستشارة وزير الخارجية، فكتوريا نولاند، كلّ القضايا المشتركة بين الجانبين، من أزمة أوكرانيا، إلى القوقاز وإسرائيل وسوريا، وصولاً إلى أمن الطاقة. وتعدّ هذه الخطوة الثانية الإيجابية لواشنطن تجاه أنقرة، بعد إعلانها قبل حوالى ثلاثة أشهر، عدم دعمها لإنشاء خطّ «إيست ميد» لنقل الطاقة من شرق المتوسط إلى قبرص واليونان وإيطاليا، نظراً إلى كلفته العالية، الأمر الذي أثار ارتياح تركيا، التي كانت مستبعَدة من هذا المشروع، وهو ما فُسّر على أنه بادرة أميركية لتشجيعها على التقارب أكثر من إسرائيل.
وحظي التقارب التركي - الأميركي باهتمام وترحيب واسعَين في أوساط «حزب العدالة والتنمية»، كما في الأوساط المعارِضة، بعد فترة طويلة من التوتّر بين البلدين. وإذا كان الكاتب مراد يتكين المعارِض يقول إن زهرة واحدة لا تصنع ربيعاً، إلّا أنه لا يتردّد في امتداح إنشاء الآلية المشتركة مع أميركا، والتي تكسر من حدّة المواقف السلبية تجاه تركيا. ويَعتبر يتكين، أيضاً، أن «أهمية تركيا ستزداد كثيراً، في حال نجح رجب طيب إردوغان في الجمع بين الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين، والأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وسينعكس هذا الأمر إيجاباً على الوضع الاقتصادي في تركيا، كما قد يزيد فرص إردوغان للفوز في الانتخابات الرئاسية، في العام المقبل». من جهته، يُشير بولنت أوراق أوغلو، في صحيفة «يني شفق» المؤيّدة للسلطة، إلى أن الولايات المتحدة هي التي بدأت بمنح الضوء الأخضر لتحسين العلاقات، من خلال رسالة من وزارة الخارجية الأميركية إلى الكونغرس تُفيد بأنّ بيع 40 طائرة من طراز «أف 16» لتركيا، سيكون متماهياً مع «مصالح الأمن القومي» الأميركي، كما أنه سيخدم وحدة «حلف شمال الأطلسي»، على المدى البعيد. وأكثر من ذلك، ورد في الرسالة أنّ دعم تركيا «رادع مهمّ ضدّ النفوذ الخبيث (لروسيا) في المنطقة»، وأنّ أنقرة، وإن لم تشارك في العقوبات الغربية على موسكو، لكن دعمها لكييف ضدّ الغزو الروسي، يخدم المصالح الأميركية والأطلسية.
حظي التقارب التركي - الأميركي باهتمام وترحيب واسعَين في أوساط «حزب العدالة والتنمية»


ويرى أوراق أوغلو أنّ جميع مجالات الأزمات التي ظهرت في الأسابيع الأخيرة، قرّبت بين تركيا والولايات المتحدة. كما يَعتبر أنه في حال فشل بوتين في حملته وأهدافه، فإن انتقال الغرب إلى مستوى أعلى من الضغوط سيكون احتمالاً قائماً. لكن بوتين قد ينقل الحرب، بدوره، إلى مستوى أعلى، «سيكون عنوانه تقسيم أوكرانيا إلى شرق وغرب يفصل بينهما نهر دينيبر، وربّما يبدأ بحصار أوديسا، وطلب الاستسلام الكامل من كييف، وهو ما يفتح الباب على مخاطر انفجار حرب عالمية ثالثة، ستجعل تركيا حاجة لحلف شمال الأطلسي». أمّا الحسم في مسألة دعم الكونغرس لتركيا، فسيكون متروكاً، بحسب الكاتب، إلى الخريف المقبل، في ظلّ الانتخابات الأميركية التي قد تعدّل من خريطة الكونغرس، الذي تغلب عليه أصوات المناهضين لتركيا حالياً.
بدوره، يبدي برهان الدين دوران، المقرّب من إردوغان، من ناحيته، تفاؤلاً كبيراً بإمكانية تصحيح العلاقات التركية - الأميركية، عندما يتحدّث في صحيفة «صباح» عن «طاقة جديدة» في العلاقات بين البلدين. ويقول دوران إن الآلية المشتركة الجديدة تمّ الاتفاق عليها في محادثة إردوغان مع نظيره الأميركي، في العاشر من آذار الماضي، حين طالب الأول برفع العقوبات الأميركية عن تركيا وبيعها طائرات «إف 16». ويلفت إلى أنّ هذه «الطاقة الجديدة» تركّز على قضايا مِن مِثل صناعة الدفاع، وإيجاد توازنات جديدة في شرق المتوسط، وزيادة التجارة، فيما تبقى قضايا كـ«حزب العمال الكردستاني»، وجماعة فتح الله غولين، قيد البحث. وعلى هذا الأساس، يعدّد الكاتب سبعة عوامل مؤثّرة في تشكيل مناخ إيجابي بين أنقرة وواشنطن، هي:
1- رغبة أنقرة نفسها في فتح صفحة جديدة مع واشنطن.
2- تغيّر حسابات اللاعبين الإقليميين بعد انتخاب جو بايدن رئيساً، والمناخ الإيجابي في مسار الاتفاق النووي مع إيران، فضلاً عن التطبيع التركي مع الإمارات، والتفاؤل بالتطبيع مع إسرائيل والسعودية ومصر.
3- الضعف الذي طرأ على المقاربات التي تستبعد تركيا في المنطقة، وتبخُّر الحملات القبرصية واليونانية في شرق المتوسط مثال على ذلك.
4- على رغم كلّ التباينات بين أوكرانيا وروسيا، فإن تركيا تتقدّم في مسألة بناء ثقة وتعاون بين البلدين المتحاربَين، وهو ما تجلّى في قيامها بدور الوسيط، الأمر الذي منحها موقعاً قيّماً.
5- أدّى الانقسام الجيوسياسي الجديد الناتج من الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى مضاعفة أهميّة تركيا، والتي لا تنحصر في موقعها الاستراتيجي، بل تطال دورها في حفظ السلم العالمي. وقد نجحت أنقرة في اتّخاذ قرارات مستقلّة في السياسة الخارجية، في السنوات الأخيرة، وهو ما قد يخلق توترات، إلّا أنّه يولّد أيضاً اتجاهات للتطبيع والتعاون عند الضرورة.
6- رغبة الولايات المتحدة في خوض حربين باردتَين مع روسيا والصين، تدفعها إلى التقارب مع حلفاء مثل تركيا.
7- التهديد الأمني الذي تشكّله روسيا، وبحث «الأطلسي» والاتحاد الأوروبي عن بدائل منها في مجال الطاقة، يضاعفان أيضاً من أهمية تركيا.
ويختم دوران بأنه من أجل استمرار هذا المناخ الإيجابي، يجب على الولايات المتحدة أن تحترم خيارات تركيا وظروفها الخاصة بها، معتبراً أن رفع العقوبات سيكون الاختبار الأوّل لهذا المسار. كما أن انتظار العواصم الغربية لنتائج الانتخابات الرئاسية التركية، عام 2023، لتحديد مواقفها النهائية، سيكون أمراً عبثياً ومضيَعة للوقت.