لا تفتأ الولايات المتحدة تتبع أساليبَ عفا عليها الزمن للتخلُّص مِمَّن يشكّلون إزعاجاً لها ولا يأتمرون بأوامرها، ويتقرّبون من خصومها. من بين هؤلاء، رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، الذي تمكَّن من الصمود في مواجهة محاولة عزله، بعدما أقنع رئيس الدولة بحلّ البرلمان. وعلى رغم التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها باكستان، ومحاولتها التحوّل إلى فاعل إقليمي رئيس، إلّا أن خان لم يفقد بعد غطاء الجيش، الذي سعى، من جهته، لطمأنة واشنطن إلى أن العلاقات معها لا تزال تشكِّل أولوية لباكستان، وإن كانت هذه الأخيرة تفضّل الانفراد بسياسة «حيادٍ» تراعي الجميع
فشلت مساعي المعارضة الباكستانية لإطاحة رئيس الوزراء عمران خان، الذي استبق انعقاد الجمعية الوطنية لحجب الثقة عن حكومته بدعوة رئيس الدولة إلى حلّ البرلمان. وهو قرارٌ شكَّل صدمة في الأوساط المعارِضة لبقاء خان في السلطة، والتي يقول هذا الأخير إنها تأتمر بأوامر دول أجنبية، تأتي الولايات المتحدة في مقدِّمها. يصرّ خان، ومن ورائه المؤسسة العسكرية، راعية وصوله إلى السلطة وبقائه فيها، على أن ثمّة تواطؤاً ما حدث لإزاحته، وهو الذي لا يفتأ يعارض السياسة الخارجية الأميركية في آسيا ودول الجنوب عامةً، في ظلّ اشتغال حكومته، منذ عام 2018، على اتباع سياسة تُقرّبها من روسيا والصين، وتبقيها، في الوقت ذاته، خارج اصطفافات المَحاور، وإن كانت، أيضاً، قد عارضت مركزيّة السعودية في العالم الإسلامي، وسعت إلى الاضطلاع بدورٍ أكبر في المنطقة، والتحوّل إلى فاعل إقليمي رئيس، مع الإبقاء على علاقات جيّدة مع الرياض.
في تفاصيل ما جرى، أوّل من أمس، وافق الرئيس الباكستاني، عارف علوي، على حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان) استجابةً لدعوة وجّهها خان بُعَيد إفلاته من مذكّرة لحجب الثقة عن حكومته، أتت، بحسب رئيس الحكومة، بوحي من «قوى خارجية»، وتواطؤ داخلي كان محلّ رفض من جانب نائب رئيس البرلمان، قاسم سوري، الذي اعتبر المذكّرة المطروحة على التصويت «مخالِفة للدستور». وفي انتظار ما ستسفر عنه الانتخابات التي سيتعيّن إجراؤها في غضون ثلاثة أشهر، بعد حلّ البرلمان، يبقى واضحاً أن حزب عمران خان، «حركة إنصاف»، خسر غالبيته البرلمانية عندما أعلن شريكه في الائتلاف، حزب «الحركة القومية المتحدة»، بأن سبعة من نوّابه سيصوّتون إلى جانب المعارضة التي يقودها حزبا «الرابطة الإسلامية الباكستانية» و«الشعب الباكستاني» المتخاصمان اللذان تقوم قيادتهما على أساس عائلي، وقد هيمنا على السياسة الوطنية على مدى عقود إلى أن شكّل رئيس الوزراء الحالي ائتلافاً ضدّهما. وحظي خان بشعبية كبيرة أوصلته إلى السلطة في عام 2018، بعدما تعهّد بالقضاء على عقود من الفساد المتجذّر والمحسوبيّة، لكنه كافح للمحافظة على الدعم في ظلّ الوضع الاقتصادي المتدهور، وتجاوز معدلات التضخّم نسبة الـ12%، وضعف العملة المحليّة (الروبية) بنحو الثلث، فضلاً عن الدين الخارجي المنهك والبالغة قيمته 130 مليار دولار، أي 43% من الناتج المحلي الإجمالي، ما أدّى إلى ركود النمو على مدى السنوات الثلاث الماضية. وعلى الرغم ممّا تقدَّم، رفضت باكستان استكمال تلقّي حزمة الدعم التي قدّمها «صندوق النقد الدولي» بقيمة ستة مليارات دولار، ووقّعها خان عام 2019، بعدما تراجعت الحكومة عن اتفاق حول خفض أو رفع الدعم عن سلع معينة لتحسين الإيرادات وتحصيل الضرائب.
أعلن الجيش أن العلاقات الجيّدة مع الولايات المتحدة لا تزال على رأس اهتمامات باكستان


وإن كانت الورقة الاقتصادية، يضاف إليها التحدِّي المتمثّل بعودة «طالبان - فرع باكستان» إلى استئناف هجماتها، أحد التحديات الرئيسة التي تواجهها حكومة خان، والتي يمكن المعارضة استغلالها لإطاحته، إلّا أن العقدة الأساس تكمن في الضغوط التي يمارسها الغرب لإبعاده عن السلطة. ويبدو أن خان صار يشكّل مصدر إزعاج للولايات المتحدة التي اتّهمها، أخيراً، بـ«التحرك لإطاحتي»، لرفضه الاصطفاف ضدّ روسيا، وهو ما نتج منه استدعاء وزارة الخارجية الباكستانية القائم بأعمال السفير الأميركي لديها للاحتجاج على دعم واشنطن مساعي المعارضة لإزاحة رئيس الوزراء. وفي هذا الإطار، ذكرت وسائل إعلام محليّة أن خان تلقّى رسالةً من سفير إسلام أباد لدى الولايات المتحدة تتضمّن تسجيلاً قال فيه مسؤول أميركي رفيع المستوى إن بلاده تشعر بأن العلاقات مع إسلام أباد يمكن أن تكون أفضل إذا غادر خان السلطة. وإن كانت واشنطن، اعتبرت على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد براس، أن «لا صحة» للاتهامات، أصرّ خان على أن ما جرى كان «خطوةً لتغيير النظام»، واتّهم المعارضة بالخيانة، مهاجماً السفراء الغربيين في إسلام أباد الذين حثّوا بلاده، الأسبوع الماضي، على إدانة تحرّكات روسيا في أوكرانيا، وسألهم عمَّا إذا كانوا يعتقدون أن باكستان «عبد» لهم. ونشر رؤساء 22 بعثة ديبلوماسية، بما في ذلك بعثات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، رسالة مشتركة في الأوّل من آذار حثّت باكستان على دعم قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يدين الهجوم الروسي على أوكرانيا، لكن باكستان امتنعت عن التصويت، وظلّت على الحياد إلى جانب الصين والهند ودول أخرى. وتركّزت الأضواء على خان وحكومته بعد قيامه بزيارة إلى موسكو في أواخر شباط، أثناء تزايد المخاوف من وقوع حرب، حيث التقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعد ساعات قليلة من إصداره أوامر لقواته بدخول أوكرانيا. ويقول خان: «نحن أصدقاء لروسيا كما أنّنا أصدقاء لأميركا، ونحن أصدقاء للصين وأوروبا ولسنا في أيّ معسكر». مع هذا، هدّأ قائد الجيش، الجنرال قمر جاويد باجوا، بعض المخاوف، بقوله إن العلاقات الجيّدة مع الولايات المتحدة لا تزال على رأس اهتمامات باكستان.