موسكو | يجد الاتحاد الأوروبي نفسه، اليوم، أمام اختبار جديد فرضته عليه عودة الحرب إلى حدوده، حيث يطلّ الحليف الأميركي برأسه ليدفع في اتّجاه حظر شامل للطاقة الروسية، من دون الأخذ في الاعتبار تداعيات ذلك على اقتصادات حلفائه. وإذ يبدو أن أوروبا ليست في وارد المغامرة بحجب الغاز الروسي، أقلّه الآن، نظراً إلى ما ستولّده هكذا خطوة من تأثيرات بالغة السلبية عليها، إلّا أن رضوخها المحتمل اليوم للضغط الأميركي في شأن التخلّي عن النفط القادم من روسيا، سيكون كافياً لوحده لخضّ الاقتصاد العالمي، وهو ما سيعتمد مداه على شكل الحظر النفطي الذي قد يُقدم عليه الأوروبيون، وفق ما يبيّن الخبراء الروس
لن يكتفي الغرب، على ما يبدو، بالعقوبات التي فرضها على روسيا إلى الآن، منذ انطلاق العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، بهدف شلّ الاقتصاد الروسي، إذ يعقد الاتحاد الأوروبي، اليوم، بمشاركة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قمّة على جدول أعمالها حزمة خامسة من العقوبات، من ضمنها حظر النفط الروسي، إضافة إلى عقوبات على نواب في مجلس الدوما، فيما يُتوقّع أن يعلن بايدن عن تحرّك مشترك بشأن تعزيز أمن الطاقة في أوروبا، وخفض اعتماد القارّة على النفط والغاز الطبيعي الروسيَّيْن، بحسب ما كشف مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان. وفيما ترغب واشنطن في أن تشمل الحزمة الجديدة النفط والغاز والفحم على السواء، إلّا أن الاتحاد الأوروبي سيبحث الحظر النفطي فقط، في ما يؤشّر إلى أن حجب الغاز الروسي قد لا يكون ممكناً، على الأقلّ في السنوات القليلة المقبلة. ويُراد من الخطوة الأوروبية الأحدث، إذا ما اتُّخذت، أن تشكّل استكمالاً لما فعلته واشنطن قبل أسابيع، بفرضها حظراً على إمدادات النفط والمنتجات النفطية والغاز والفحم من روسيا، استهدف إعطاء نموذج للأوروبيين حول كيفية التصرّف، لكنّ المفارقة تكمن في أن الأميركيين لم يشتروا الغاز أو الفحم من روسيا إلّا بكمّيات قليلة. ويريد بايدن، اليوم، إقناع الأوروبيين بفرض العقوبات نفسها التي فعّلتها بلاده، فيما انضمّ الحلفاء الرئيسون للولايات المتحدة في أوروبا ودول البلطيق وبولندا إلى الحملة ضدّ النفط الروسي. لكن ليس من المؤكد ما إذا كان الأوروبيون سيمضون في فرض حظر من هذا النوع، على الأقلّ الآن، إذ إن ألمانيا، الدولة الأهمّ في الاتحاد، تعارض هذه الخطوة علانية، وقد أكدت حكومتها أنها لا تستطيع الاستغناء عن وارداتها من النفط الروسي، في حين أقرّ رئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، بأن الاتحاد الأوروبي يعتمد كلياً على تلك الواردات، ولا يمكنه أن يستغني عنها في الأفق القريب.
وكانت روسيا حذّرت من أن هذا الخيار سيؤدي إلى ارتفاع سعر برميل النفط إلى حدود 500 دولار، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات على الاقتصادَين الأوروبي والعالمي، اللذين لم يخرجا بعد من تبعات أزمة فيروس «كورونا». وفي هذا الإطار، ينبّه الخبير في «الصندوق الوطني لأمن الطاقة الروسي»، إيغور يوشكوف، إلى أن «عواقب الخطوة الأوروبية - إذا ما حصلت - على اقتصاد الأوروبيين ستكون أسوأ بكثير ممّا هي على الاقتصاد الأميركي». ويعتقد يوشكوف، في تصريح إلى صحيفة «غازيتا.رو» الروسية، أن «الأوروبيين لن يتمكّنوا من إيجاد بديل للنفط الروسي بسهولة مثل الولايات المتحدة»، مشيراً إلى أنه «مقارنة بأوروبا، ذهبت كميات صغيرة من النفط ومنتجاته من روسيا إلى الولايات المتحدة». وتشير الإحصائيات إلى أن الولايات المتحدة بدأت مُقدَّماً، حتى قبل تطبيق الحظر، في الحدّ من شراء النفط والمنتجات البترولية والبحث عن مورّدين بدلاء. وفي عام 2021، زوّدت روسيا، الولايات المتحدة، بمتوسّط 700 ألف برميل يومياً، ولكن في بداية عام 2022، انخفض ذلك الرقم بشكل حادّ، ليبلغ في شباط نحو 143 ألف برميل، وفي آذار ما يزيد قليلاً عن 40 ألفاً يومياً. بالإضافة إلى ما تَقدّم، أعطى الأميركيون لشركاتهم فترة سماح مدّتها 45 يوماً لرفض النفط الروسي، فيما تَبيّن، بحسب يوشكوف، أن الولايات المتحدة تحتاج إلى ثلاثة أشهر لتقليص حجم مشترياتها من النفط والمنتجات البترولية الروسية، بشكل جذري.
لا يبدو أن خيار فرض عقوبات على النفط الروسي سيكون بالأمر السهل لأوروبا


لكن بالنسبة إلى أوروبا، ستكون عملية إعادة بناء سلسلة التوريد أكثر صعوبة (يستورد الاتحاد الأوروبي 40% من الغاز و31% من المنتجات النفطية من روسيا). فمثلاً، تستورد ألمانيا وحدها 560 ألف برميل يومياً من روسيا، وبولندا 360 ألفاً، وهولندا 260 ألفاً، وفنلندا 180 ألفاً، وبلجيكا 160 ألفاً، بالإضافة إلى دول أخرى، ما يعني الحاجة إلى وقت أطول للعثور على مورّدين بدلاء، مع مميّزات خاصة للنفط تناسب المصافي الأوروبية، إضافة إلى إبرام عقود جديدة طويلة الأجل، وإعادة بناء نظام اللوجستيات والتسليم بالكامل، وهو ما سيجبر الأوروبيين على إغراء المورّدين الآخرين بأسعار نفط أعلى. وفي هذا السياق، يشدّد يوشكوف على أنه «من المهمّ تحديد شكل الحظر النفطي الذي سيختاره الاتحاد الأوروبي، وما إذا كانت ستكون هناك فترة انتقالية، وما هي مدّتها». ويبيّن أنه «إذا قرّر الاتحاد الأوروبي التوقّف فوراً عن شراء النفط الروسي، فسيكون ذلك بمثابة صدمة للسوق العالمية، ولن تتمكّن روسيا من إعادة توجيه جميع الأحجام إلى أسواق المبيعات الأخرى بسرعة، لذا سيتعيّن عليها إيقاف الإنتاج جزئياً. وسيؤدي ذلك إلى خلق عجز كبير في السوق العالمية وزيادة الأسعار إلى 200-300 دولار للبرميل، وهو ما حذّر منه وزير الطاقة الروسي، ألكسندر نوفاك». والسيناريو الأقلّ راديكالية، هو أن يقترح الاتحاد الأوروبي التخلّص التدريجي من النفط الروسي على فترة طويلة، قد تكون عاماً مثلاً. وذلك، إن حصل، يعني أن روسيا ستبدّل أسواق المبيعات تدريجياً مع مورّدي الشرق الأوسط، حيث سيذهب النفط الروسي إلى آسيا، وبشكل أساسي إلى الهند والصين، وأيضاً إلى جنوب شرق آسيا وأميركا الجنوبية، في حين سترسل السعودية والكويت والعراق نفطها إلى السوق الأوروبية. كما ستعمل روسيا على زيادة نقل النفط إلى الصين عبر كازاخستان (يمرّ الآن 10 ملايين طنّ من النفط سنوياً عبر خطّ الأنابيب).
أمّا بالنسبة إلى الغاز، فالوضع أكثر تعقيداً، وهو أمر يعترف به الاتحاد الأوروبي نفسه. وإذ لن تتمكّن روسيا، في حال حظره، من إعادة توجيهه من أوروبا إلى آسيا، وسيتعيّن عليها وقف الإنتاج، سيكون ممكناً بالنسبة إلى أوروبا، من الناحية النظرية، أن تجد غازاً في أسواق أخرى وتعيد توجيهه إليها، لكن هذا سيعني أنه سيقع عجز حادّ في هذه المادّة في السوق العالمية لن يتمكّن أحد من تعويضه لفترة طويلة، وهو ما سيؤدي إلى انطلاق حرب أسعار بين آسيا وأوروبا، سيخرج منها الجميع خاسرين. كذلك، من شأن خيار التحوّل إلى الفحم أن يولّد مشكلة كبيرة لدول الاتحاد، بالنظر إلى أن روسيا تُعدّ أكبر مورّد للفحم إلى أوروبا. ويبقى أمر خطير أيضاً ستكون له ارتداداته على الأسواق العالمية، وهو بدء الحديث عن بعض القيود الأوروبية على الموانئ. حتى الآن، يناقش الاتحاد الأوروبي، فقط، فرض حظر على دخول السفن الروسية إلى الموانئ الأوروبية، بحسب ما كشفه وزير النقل الليتواني، ماريوس سكوديس، لكنّ الولايات المتحدة هدّدت، في وقت سابق، بأنها تفكّر بإغلاق طرق التجارة البحرية الروسية. ووفقاً للخبراء الروس، فإنه في أسوأ السيناريوات، قد يؤدي ذلك إلى حرب عالمية ثالثة إذا بدأت السفن الأميركية في مطاردة ناقلات النفط الروسي في المياه الدولية.
يدرك الاتحاد الأوروبي أن قرار فرض حظر على النفط والغاز الروسيَّيْن سيعني عملياً الخطوة الأخيرة في قطع العلاقات مع روسيا. ومن هنا، يجد القادة الأوروبيون أنفسهم، اليوم، أمام خيارَين: إمّا يرضخون للضغوط الأميركية مع كلّ ما يعنيه ذلك من أثر سيّئ على اقتصاداتهم، وإمّا يُعلون مصلحة شعوبهم التي بدأت تئنّ من غلاء الأسعار.