يفرض المُتغيّر الأوكراني نفسه على صانع القرار في تل أبيب، ليؤثّر على استراتيجياته في أكثر من ساحة مواجهة، وإن كانت المقاربة العلنية الإسرائيلية تكاد تحصر نفسها في إطار سجالات بينية على كيفية البقاء إلى جانب واشنطن في الحرب، من دون إزعاج موسكو. ويبدو أن الساحة الفلسطينية، كغيرها من الساحات، وإن لم تلْقَ اهتماماً بارزاً علنياً، تشغل إسرائيل، على خلفيّة ما يمكن أن تُحفّزه الأزمة الأوكرانية من اتّجاه إلى التصعيد الأمني الذي تَحرص الدولة العبرية على تجنُّبه، بسبب انشغالها بمواجهة تهديدات أخرى، وفي المقدّمة الجبهة الشمالية. وإذا كان أكيداً أن الحرب في شرقيّ أوروبا دفعت القضية الفلسطينية إلى موقع أكثر تدنّياً على سلّم الاهتمام الدولي والإقليمي، فهي ستكون، وهنا المفارقة، دافعاً للفلسطينيين كي يستغلّوا الانشغال العالمي بها من أجل خدمة مصالحهم، وذلك عبر التسبُّب بتصعيد - وإنْ تدحرَج نحو مواجهة أوسع - من شأنه أن يدفع عواصم القرار إلى الإسراع في فرض تهدئة، ستمثّل فرصة لتحصيل مكاسب فلسطينية لم تُتَح سابقاً. وتتعزّز هذه الفرضية مع تزايد التحذيرات الإسرائيلية عشيّة شهر رمضان، الذي لا تخفي تل أبيب خشيتها منه بوصفه عاملاً محفّزاً تقليدياً على المواجهة لدى الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
تخشى إسرائيل من أن يستغلّ الفلسطينيون الانشغال العالمي من أجل خدمة مصالحهم

والخشية الإسرائيلية، كما يَظهر، مُركَّزة في اتجاهات ثلاثة: الأوّل أن يستغلّ الجانب الفلسطيني المقاوم اهتمام عواصم القرار الغربي بعدم حرف التركيز عن المواجهة مع روسيا، من أجل الدفع إلى تصعيد أو حتى معركة، ستَعقبها تسويات على أساس مكاسب اقتصادية وغير اقتصادية للفلسطينيين، عبر تخفيف الحصار بشكل مغاير لما نتج من مواجهات سابقة. والثاني، أن تستثمر فصائل المقاومة، أيضاً، الارتداع الإسرائيلي المتوقّع عن الردّ المتناسب على التصعيد الفلسطيني، ربطاً بالعامل الدولي الذي سيسارع إلى لجم الاحتلال عن الإضرار بالفلسطينيين، من أجل استثمار المكاسب المتحقّقة في التحضير لمرحلة ما بعد رئيس السلطة، محمود عباس، الذي يمكن أن يغادر المنصّة في أيّ لحظة. وفي هذا الإطار، تعتقد تل أبيب أن شهر رمضان سيمثّل فرصة مناسبة للفصائل، وفي المقدّمة «حماس»، من أجل تعزيز حضورها، بوصفها قوّة أثبتت مشروعيتها عبر التضحيات ومنازلة المحتلّ، في كلّ ما يتعلّق باليوم الذي يلي مرحلة «أبو مازن». أمّا الاتّجاه الثالث، فهو أن أيّ انحراف أو انزياح ولو نسبياً عن الاهتمام بالجبهة الشمالية بمركّباتها المختلفة، بدءاً من إيران وصولاً إلى لبنان وما بينهما - وهو ما يراهن عليه الفلسطينيون وفقاً للتقديرات الإسرائيلية -، سيؤدّي إلى الإضرار بالاستراتيجيات المفعّلة «على حدّ السيف»، ربطاً بالمتغيّرات التقليدية والدولية، حيث ستكون تل أبيب معنيّة، في حالة التصعيد على الجبهة الفلسطينية، بتسويات مع أثمان قد تكون مؤلمة تسهيلاً لتهدئة سريعة.
هذا القلق، الذي يبدو في عوامله وتأثيراته غير مسبوق، يفسّر جملة إجراءات أقدمت عليها سلطات الاحتلال إزاء الفلسطينيين، ومن بينها الامتناع عن أيّ إغلاق كامل للمناطق الفلسطينية، كما هي العادة المتّبعة منذ سنوات، مع حلول «عيد المساخر» لدى اليهود، وكذلك إعطاء أذونات عمل بالآلاف من المناطق المحتلة إلى أراضي عام 1948، إضافة إلى تسهيلات رُبطت بشهر رمضان، سواءً في القدس والحرم القدسي، أو هدم وإزالة بؤر استيطانية في الضفة، أو تجاه الأسرى وتمكين ذويهم - بعد منع طالت مدّته - من زيارة أبنائهم.