جاءت زيارة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، لتركيا، قبل يومين، في إطار مسارٍ بدأته هذه الأخيرة، في سبيل استعادة جزء من النفوذ في المنطقة، وسط التغيّرات الكثيرة التي تشهدها الأخيرة. فبالنسبة إلى أنقرة، بدا من الواضح، مع الوقت، أن نفوذها السياسي والاقتصادي المستقبلي، في منطقة البحر الأبيض المتوسط، بات على المحك، وخصوصاً في ظلّ إضفاء الطابع الرسمي على التعاوُن المتعدّد الأطراف في مجال الطاقة بين خصومها الإقليميين، في مطلع عام 2020. حينها، جرى افتتاح "منتدى غاز شرق المتوسط" (EMGF)، وهو منظّمة دولية لتطوير الغاز الطبيعي، أسّستها إيطاليا ومصر واليونان وقبرص وإسرائيل والسلطة الفلسطينية والأردن. ولاحقاً، في آذار 2021، جرى قبول فرنسا كعضو في المنظمة، التي مقرّها القاهرة، مع منح الولايات المتحدة صفة عضو مراقب دائمٍ فيها. كلّ ذلك، بينما كانت تركيا لا تزال مستبعدة ممّا يسمّى "أوبك" لغاز شرق البحر المتوسط.من جهتها، كانت تركيا قد سعت إلى كسر عزلتها، عبر إبرام اتفاقية الحدود البحرية، في أواخر عام 2019، مع حكومة "الوفاق الوطني" الليبية، وتدخّلها عسكرياً نيابة عنها، ما أدّى إلى عكس مسار الحرب الأهلية في ليبيا، بحلول حزيران 2020. إلّا أن تدخّل تركيا في ليبيا، كان جزءاً من المشروع الأكبر المتمثّل في توسيع نفوذها في أفريقيا، والذي تضمّن أهدافاً من مثل موازنة القوة الإقليمية لمصر. لذا، في أيلول 2017، أقامت أنقرة قاعدة في العاصمة الصومالية مقديشو، بالقرب من خليج عدن، المدخل الشرقي لممر البحرّ الأحمر. وبعد شهرين، سعت إلى تحدّي الهيمنة المصرية على البحر الأحمر، من خلال الاستحواذ على ميناء سواكن السوداني. لكن الجهود التركية في السودان أُحبطت بعد الإطاحة بحليفها، الرئيس عمر البشير، في نيسان 2019، وظهور حكومة جديدة مدعومة مالياً من شركاء: مصر، الإماراتيين والسعوديين، بمبلغ ثلاثة مليارات دولار.
ولكن في غضون ذلك، عوّضت تركيا خسائرها الاستراتيجية في السودان، بتدخّلها في ليبيا، فكان أن برز وجودها البحري في شريط مصراتة الساحلي، والجوي في قاعدة الوطية التي أعيدت السيطرة عليها، والتي تقع على بعد 27 كيلومتراً من تونس. وبالتوازي مع هذه التحرّكات، قامت أنقرة، في أوائل آب 2020، بتوسيع تكتيكاتها البحرية ضدّ اليونان، العضو في "الناتو"، وذلك بعد عامين من الدبلوماسية غير الناجحة للزوارق الحربية حول مياه قبرص. وأرسلت تركيا سفينة استكشاف، برفقة مجموعة من خمس سفن حربية بحرية إلى المياه المتنازع عليها بينها وبين اليونان، الأمر الذي أدّى إلى مواجهة شاملة بين البحريّتين، في أواخر آب 2020.
ولكن ربطاً بهذه التحرّكات، تفاجأت أنقرة بالتضامُن الشرق أوسطي مع أثينا، والذي سرعان ما أعقبه، في 15 أيلول 2020، التوقيع على "اتفاقيات إبراهام" لتطبيع العلاقات بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، وإعادة تشكيل البنية الاستراتيجية للشرق الأوسط، بشكل كبير. فضلاً عن كلّ ذلك، تمثّلت نقطة التحوّل بالنسبة إلى أنقرة، في زيارة وزير النفط والثروة المعدنية المصري، طارق الملا، لإسرائيل، في 21 شباط 2021. وكانت تلك أوّل زيارة علنية لمسؤولٍ حكومي مصري رفيع المستوى لإسرائيل، منذ خمس سنوات. عندها، أدركت تركيا الحاجة التي لا مفرّ منها، لإعادة ضبط سياستها تجاه شرق البحر المتوسط، فكان أن قدّمت سلسلة من المبادرات الدبلوماسية لمصر، خلال ربيع عام 2021، أسفرت عن زيارة نائب وزير الخارجية التركي ومسؤولين آخرين للقاهرة، في أوائل أيار، في أوّل زيارة لوفد تركي رفيع المستوى، منذ عام 2013.
لن تكون مهمّة إردوغان لتطبيع العلاقات مع إسرائيل سهلة، بل يكتنفها الكثير من العراقيل


إثر ذلك، أسفرت الجهود الموازية بين تركيا وإسرائيل عن قيام الأولى، في 23 نيسان 2021، بإرسال دعوة لوزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شطاينتس، للمشاركة في منتدى أنقرة للدبلوماسية في أنطاليا، في حزيران 2021، بعدما كانت زيارة شطاينتس، عام 2017، آخر زيارة لمسؤول إسرائيلي كبير لتركيا. وعكست الدعوة لوزير الطاقة الإسرائيلي، بعد شهر واحد فقط من زيارة الملا لإسرائيل، رغبة أنقرة في إيجاد مسارٍ جديد نحو التعاون في مجال الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط. فعلى الرغم من أنها ألغت دعوتها إلى شطاينتس، ردّاً على العدوان الإسرائيلي على غزة، خلال حرب أيار 2021، إلّا أن دوافع تركيا الأساسية للتقارب مع إسرائيل بقيت قائمة. بل إن حرب غزة 2021 سلّطت الضوء على حاجتها إلى التقارب مع إسرائيل، إذ بقيت أنقرة على هامش الأحداث الإقليمية، بينما قامت القاهرة بدور مركزي في التوسّط لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة "حماس"، بالتعاون الوثيق مع واشنطن. وبالتالي، رأت تركيا أن تغيير الحكومة في إسرائيل فرصة لإعادة بناء العلاقات مع الأخيرة على أسس جديدة.
لا يزال مخطّط الغاز الطبيعي المُسال في مصر، هو الخيار الأكثر جدوى لتسويق غاز شرق البحر المتوسط. ومع ذلك، فإن السوق الأصلي للخطّة غير قابل للتطبيق. إذ ترتكز معظم المقترحات الخاصّة بتسويق غاز شرق البحر الأبيض المتوسط على افتراضٍ لا أساس له من الصحّة، بأن الاتحاد الأوروبي يشكّل منطقة السوق. ونشأ هذا الافتراض من الهدف الجيوسياسي، المتمثِّل في التخفيف من اعتماد أوروبا المفرط على صادرات الغاز الطبيعي الروسي، بينما ولّد تركيزاً في غير محلّه على سوق الطاقة في الاتحاد الأوروبي.
ولكن هنا، تجدر الإشارة إلى أن سوق الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط لم يعد لأوروبا حصراً، بل للدول المحيطة بحوض البحر المتوسط بأكمله، بما في ذلك تركيا. وستشهد الفترة، بين عامَي 2020 و2040، نموّاً في الطلب على الغاز الطبيعي، مدفوعاً بالدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، على طول سواحل البحر المتوسط الجنوبية والشرقية. وسيكون النمو الجماعي في الطلب على الغاز في هذه المناطق، قوياً بنسبة 3.2٪، متجاوِزاً معدّل النمو السنوي البالغ 0.3٪ في دول الاتحاد الأوروبي، الواقعة على شمال البحر الأبيض المتوسط. ومن غير المرجّح أن يتأثّر الجدول الزمني للوصول إلى تقدير الطلب لعام 2040، بشكل كبير بجائحة "كوفيد - 19"، أو حتى بالحرب في أوكرانيا. فعلى الرغم من اختلاف التقديرات، قدّرت "وكالة الطاقة الدولية" أن الطلب العالمي على الطاقة سوف يتعافى ما بين عامي 2023 و2025.
في هذا السياق، أعلنت تركيا عن اكتشاف احتياطيات للغاز الطبيعي قبالة ساحل البحر الأسود. كما يحتوي حقل غاز سراكايا التركي على ما يقدر بنحو 405 مليارات متر مكعّب، وهو حجمٌ يعادل، تقريباً، ثماني سنوات من الطلب المحلّي. وبالإشارة إلى أن الإنتاج المتوقّع لتركيا من الحقل، عام 2023، هو فقط 5 - 10 مليارات متر مكعّب سنوياً، فهو سيمثل 10-20٪ من طلب تركيا على الغاز، ما يعني أن هذه الأخيرة قد تتحوّل، تدريجيّاً، إلى منتج للغاز الطبيعي في حدّ ذاته، الأمر الذي سيساعد في إعادة صياغة الظروف لقبول أنقرة كعضو في منتدى غاز البحر المتوسط، ولا سيما أن تركيا تملك منشآت تخزين للغاز، يمكن دمجها بكفاءة في التسويق على مستوى البحر الأبيض المتوسط.
في هذه الأثناء، يأتي الانفتاح التركي الأخير على مصر وإسرائيل واليونان، بهدف إيجاد مسارٍ للمشاركة في تسويق غاز شرق البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي سيؤدّي إلى تسهيل التطبيع مع إسرائيل. وتحظى خطوة التطبيع هذه بموافقة واشنطن، التي ترى أن تحديد مسار للمشاركة التركية في تسويق الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط، من شأنه أن يزيل عقبة كبيرة نسفت التقدُّم نحو تسوية تفاوضية للنزاع على الحدود البحرية بين اليونان وتركيا وقبرص، الذين يعدّون جميعاً حلفاء للولايات المتحدة.
من جهة أخرى، تريد أنقرة أن تُخفّف دعم إسرائيل للدول العربية، وخصوصاً بعد موقف تل أبيب الحازم، عندما دانت سلوك تركيا في المنطقة، ووصفته بأنه "إمبريالية". ويأتي ذلك بالتوازي مع اتّهامها من قِبَل المسؤولين الإسرائيليين، المتكرّر، بالسماح لحركة "حماس" بالتجنيد والتخطيط لشنّ هجمات من الأراضي التركية، فيما ضغطوا على واشنطن لفرض عقوبات عليها، لأن لديها صلات مع طهران، "التي تدعم الإرهاب في المنطقة"، على حدّ زعمهم. كما أن القادة العسكريين الإسرائيليين يشيرون إلى أن إيران و"حزب الله" يشكّلان تحدّياً لجنود تركيا في إدلب، كما يمثّلان خطراً على إسرائيل في جنوب سوريا.
أخيراً، يبدو أنّ مهمّة إردوغان لتطبيع العلاقات مع إسرائيل لن تكون سهلة، بل يكتنفها الكثير من العراقيل، وخصوصاً في ظلّ وضعٍ إقليمي متوتّر ومترقّب لنتائج الصراع الروسي ــــ الأميركي في أوكرانيا، والصراع الصيني ــــ الأميركي في المحيط الهندي، ومفاوضات الاتفاق النووي بين القوى الكبرى وإيران، وكيفية تسوية الملفّات: السوري والليبي واليمني. وكلّ هذه الملفّات تؤثّر، بشكل مباشر، على العلاقات بين تركيا وإسرائيل وإيران والدول العربية الفاعلة، وخصوصاً مصر والسعودية والإمارات.