لندن | بدا جليّاً، بعد مرور أسبوعين على انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أن موسكو لا تتعجّل في تحقيق أهدافها القصوى المُعلَنة. وإضافة إلى الأسباب العملياتية المرتبطة بتجنّب الإصابات بين المدنيين، نظراً للتداخل الاجتماعي والثقافي العميق بين سكّان أوكرانيا والشعب الروسي، وضرورة تحييد المواقع العسكرية الحسّاسة وجيوب القوميين النازيين المُتطرّفين قبل انتشار القوات البرّية، فإن التباطؤ النسبي في تقدُّم القوات الروسية في العمق الأوكراني، والاستخدام المحدود للقوّة الفضائية الروسية المتفوّقة، والهدوء الملحوظ على جبهة الحرب الإلكترونية، كما انعدام الانفعال أمام الإعلانات الغربية المتلاحقة عن توسيع نطاق العقوبات، وفي المقابل استمرار تدفُّق إمدادات الغاز والنفط نحو أوروبا، إنّما تعكس، في مجموعها، ثقة القيادة الروسية في استحالة تحقّق المشروع الأميركي لعزل روسيا، بشكل كلّي، ليس بفضل التماسُك الجيّد - إلى الآن - للمحور الاستراتيجي المضادّ فقط، ولكن أيضاً بسبب الاعتماد المتزايد لأوروبا على موارد الطاقة الروسية، سواءً في ما يتعلّق بالغاز أو النفط أو حتّى الفحم الحجري، ناهيك عن معادن ومحاصيل أخرى متعدّدة.وبحسب أرقام موثّقة من «يوروستات»، فإن عدّة دول أوروبية ومنها المجر (هنغاريا)، ولاتفيا، وبلغاريا، تعتمد بصورة شبه كلّية على الغاز الروسي، فيما تصل النسبة في ألمانيا - أكبر اقتصاد أوروبي على الإطلاق - إلى 65 %، وفي بولندا 55%، وفي إيطاليا 43%، واليونان 39%، وفرنسا 17%، والمملكة المتحدة 7%. وحتى في دولة منتجة للغاز، مثل النروج، فإن 30% من استهلاكها مصدره روسيا. وتفيد الأرقام، أيضاً، بأن روسيا هي مصدر ما يقرب من أربعة من كلّ خمسة براميل نفط في سلوفاكيا، وثلثي تلك الموجودة في بولندا وليتوانيا وفنلندا، بينما النسبة في ألمانيا 30%، فيما تستورد المملكة المتحدة وإيطاليا حوالى 12٪ من احتياجاتها النفطية من روسيا. وبحسب مركز أبحاث متخصّص بشؤون الطاقة، فإن أوروبا تدفع يومياً ما يعادل 300 مليون دولار للخزينة الروسية، مقابل إمدادات الطاقة تلك، كما تلقّت روسيا 104 مليارات دولار من جرّاء صادراتها من الخام والبنزين والديزل إلى أوروبا، العام الماضي، أي أكثر من ضعف الـ43 مليار دولار التي حصلت عليها من شحنات الغاز.
هذه الاعتمادية الكثيفة كفيلة بخرق أيّ إمكانية لتحقيق سياسة حصار مالي واقتصادي شامل ضدّ روسيا، وفقاً للصيغة التي نفّذتها الولايات المتحدة ضدّ دول معادية لها في مراحل مختلفة (العراق ما قبل الاحتلال، وسوريا، وإيران، وفنزويلا، وكوبا، وكوريا الشمالية). ومن الواضح أن الكرملين يرى أن الوقت في صالحه في هذه المنازلة الأكبر والأخطر، وأن التشقّقات ستبدأ بالظهور تباعاً في التحالف الغربي، بحيث تتحوّل العقوبات تدريجياً إلى موضع ألم للغرب، كما هي لروسيا. وقد ظهرت أولى معالم التشقّق تلك، بالتوازي مع إعلان الرئيس الأميركي، جو بايدن، قرار بلاده حظر استيراد النفط الروسي. إذ كانت كندا استبقت القرار، بعدّة أيّام، بفرض حظرٍ مماثلٍ (على رغم أنها لا تشتري نفطاً روسياً من حيث المبدأ)، ولحقتها بريطانيا بالإعلان عن وقف تدريجيّ لواردتها النفطية الروسية، بغرض الاستغناء النهائي عنها مع نهاية العام. لكن كان من الواضح أنّ هذه الإجراءات تكاد لا تكلِّف أصحابها شيئاً، على الصعيد الاستراتيجي (النفط الروسي يشكّل 7% فقط من ورادات النفط إلى الولايات المتحدة)، وأنه يسهل عليهم نسبياً تعويض المنتج الروسي من نفط السعودية، على رغم الارتفاعات القياسية في أسعار النفط، والتي تتّجه سريعاً لكسر الرقم القياسي الذي سجّل عام 2008، في أجواء الأزمة المالية العالمية حينها (147 دولاراً).
بدأت الدول التي تقود مشروع الحصار على روسيا تحسّ بآثاره سريعاً على مستوى المواطن العادي


لكن الحكاية مختلفة تماماً على البرّ الأوروبي. إذ استبق المستشار الألماني، أولاف شولتز، القرار الأميركي متحدّثاً باسم الاتحاد الأوروبي، معلناً أنّه يشعر بالقلق إزاء أمن الطاقة لديه، وقرّر لذلك ألّا يتبع الولايات المتحدة في حظر النفط الروسي، في الوقت الحالي على الأقلّ. ويكرّس هذا الموقف الذي تدعمه دول وازنة داخل الاتحاد - لاسيّما إيطاليا وهنغاريا والنمسا - تحوّلاً مفاجئاً في سياق «صولة الأسد»، التي لعبها شولتز لعدّة أيام في مناخ هستيريا العداء لروسيا. ولا شكّ في أن التوحّد الأوروبي، على رغم الضغوط الأميركية الهائلة، متأتٍّ من أسباب براغماتية بحتة، وتجنّباً للأسوأ، وهو انقطاع الإمدادات الروسية، على المدى القصير أو المتوسّط. وكانت بروكسل قد أعلنت سابقاً تبنّي استراتيجيات للتقليل من اعتماد الدول الأعضاء على النفط والغاز الروسيَين، من دون أن تَذكر العقوبات، وركّزت بدلاً من ذلك على توسيع تخزين الإمدادات وتنويع مصادرها.
وعلى رغم التحاق ألمانيا بالأميركي عبر فرض عقوبات على موسكو، من خلال نظام «سويفت» للتحويلات المالية، إلّا أن اللافت استثناء معاملات النفط والغاز منها. أمّا بخصوص «نورد ستريم -2»، الذي اضطرّ شولتز، في وقت سابق، إلى الإعلان عن تجميده، فالأميركيون لم يتركوا له أيّ خيار بشأنه، إذ هدّدوه بأنهم سيعاقبون كلّ مساهِم وكلّ عميل وكّل سياسي من «الحزب الديموقراطي الاشتراكي» في ما لو مضى في المشروع قُدُماً، وهذه بالطبع ستكون بمثابة إعدامات سياسية واقتصادية في دولة من مثل ألمانيا. وبالنسبة للتعهّد الألماني بإرسال الأسلحة المضادّة للطائرات والدبابات للجيش الأوكراني، فمن المستبعد أن تكون له تأثيرات حقيقية في موازين القوى على الأرض.
وللمفارقة، فإن الدول التي تقود مشروع الحصار على روسيا بدأت تحسّ بآثاره سريعاً، على مستوى المواطن العادي، بما في ذلك الولايات المتحدة ذاتها. فتشديد العقوبات أعطى اتّجاهاً تصاعُدياً لأسعار النفط، ليضطرّ سائقو السيارات الأميركيون إلى دفع أسعارٍ أعلى لتعبئة سياراتهم، حتى قبل الارتفاع الأخير إلى سعر 134 دولاراً للبرميل بالأمس، والذي تدخّلت الحكومة الأميركية بكلّ ثقلها لكبحه مؤقتاً. وجاء هذا فيما تردّدت أنباء عن شروط تتعلّق بضرورة تقديم دعم استراتيجي للسعودية والإمارات في اليمن، إن أرادت الولايات المتحدة من هاتين الدولتين إغراق الأسواق بالنفط لخفض الأسعار. أيضاً، فإن مستويات المعيشة في المملكة المتحدة في طريقها الأكيد إلى أسوأ مستوى لها. والمؤكّد، الآن، أنه كلّما طالت الحرب الاقتصادية الغربية على روسيا، ارتفعت التكلفة على اقتصادات المحاصِرين، فيما يتمّ تصحيح اقتصاديات المُحاصَرين بنيوياً، في حصار عكسيّ التأثيرات سيكون الأوّل من نوعه في التاريخ، وقد يأتي يوم ويشكر الروس جو بايدن عليه.