أقرّ رئيس وزراء العدو، نفتالي بينيت، ضمناً، بفشل وساطته في الصراع الروسي - الأوكراني؛ إذ اعتبر خلال جلسة الحكومة أنه «حتى لو لم تكن الفرصة كبيرة، فبمجرّد أن تكون هناك فرصة صغيرة... أرى أنه من واجبنا الأخلاقي القيام بكلّ محاولة». ومنذ انطلاق تلك الوساطة، بدا واضحاً أن ليست ثمّة مؤشّرات إلى إمكانية نجاحها، فما الذي دفع بينيت إلى المضيّ فيها؟ وما الذي يكشفه ذلك من مخاوف وتقديرات لدى المؤسّستَين السياسية والأمنية إزاء آفاق هذه الحرب وتداعياتها على إسرائيل والمنطقة؟ جرى الحديث، ابتداءً، في الكيان الإسرائيلي، عن أن العاملَين الأساسيَين اللذين سمحا لبينيت بالمبادرة إلى لعب دور الوساطة، هما أن له «علاقة جيدة بواشنطن وموسكو، وأنه لا توجد مصلحة لإسرائيل في الأزمة». إلّا أن ذلك يوحي بأن هناك قدْراً من الندّية والتوازن في العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة، وهو ما لا يطابق الواقع، حيث يَظهر التميّز الذي يسِم علاقتهما عائداً، بالدرجة الأولى، إلى المكانة التي تحتلّها تل أبيب في الاستراتيجية الأميركية، والدور الوظيفي الذي تؤدّيه في خدمة مصالح واشنطن في المنطقة.في المقابل، فإن علاقة تل أبيب بموسكو تقوم على تقاطع المصالح في ساحات، وتباينها في أخرى. ولذلك، فإن إسرائيل تنتمي تلقائياً إلى المعسكر الغربي الذي يصطفّ وراء النظام الأوكراني، لكن متغيّرات البيئة الإقليمية التي بات الجيش الروسي جزءاً رئيساً منها، وقدرته على التأثير في حرّية عمل سلاح الجو الإسرائيلي في سوريا والمنطقة، دفعت بينيت، مدعوماً من الجيش، إلى محاولة التمايز عن المعسكر الدولي الذي ينتمي إليه، بخاصة أن هناك استعداداً روسياً للمُضيّ في معادلة التنسيق القائمة مع إسرائيل، حتى الآن. أمّا الحديث عن عدم وجود مصلحة لإسرائيل في هذا النزاع، فهو على النقيض تماماً من حقيقة الواقع. إذ إن تل أبيب تُعدّ من أكثر الأطراف قلقاً من تداعيات الأزمة التي تواجهها أوروبا والعالم، والتي لخّصها بينيت نفسه قبل أيام بقوله إن «النظام العالمي يمرّ بهزة هائلة»، مشيراً بكلامه إلى المخاوف الإسرائيلية من اهتزاز المعادلة الدولية القائمة على هيمنة الولايات المتحدة، وتسارع تراجع الأحادية القطبية في اتجاه التعدّدية القطبية.
الأكيد أن المؤسسات السياسية والأمنية في إسرائيل أشبعت هذا المتغيّر الدولي بحثاً. ولذا، فإن الدور الذي يصرّ بينيت على لعبه هو خلاصة توصيات تقدّمت بها قيادة الجيش، وفق تقارير إعلامية، ومفادها ضرورة عدم اتّخاذ مواقف علنية ضدّ روسيا. ويعود ذلك إلى أن الجيش هو أكثر مَن يعلم خطورة حدوث تَغيّر في الأداء الروسي على الساحة السورية. وفي هذا الإطار، نقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن ضباط في هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي وصفهم سياسة الحكومة بأنها «متوازنة ومسؤولة وواقعية إزاء تحدّيات الجيش». ومن هنا، يصبح مفهوماً السعي للعب دور الوسيط، على رغم إدراك تل أبيب أن نجاح الوساطة مرهون بانفتاح الطرفَين المتحاربَين على إمكانية عقد صفقات، وهو ما لا يبدو متحقّقاً إلى الآن في ظلّ تأكيد بوتين، لبينيت، في اتّصال هاتفي قبل أيام، أن مفتاح الحلّ يكمن في المحافظة على المصالح الأمنية الروسية. وعلى هذه الخلفية، تساءلت صحيفة «هآرتس» عمّا «يمكن أن تُحقّقه إسرائيل حيث فشلت فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة؟».
الدور الذي يصرّ بينيت على لعبه هو خلاصة توصيات تقدّمت بها قيادة الجيش


وإذا كان حجم الأزمة يتجاوز بكثير قدرة إسرائيل على التأثير، فإن جلّ ما تعمل عليه تل أبيب، اليوم، هو تجنّب استفزاز الجانب الروسي، الذي يستطيع ابتزازها والضغط عليها من البوابة السورية. وفي هذا الاتجاه، تأتي محاولة بينيت التأكيد لبوتين إصرار إسرائيل على الحياد على رغم كونها جزءاً من المعسكر الغربي، وسعيه بالتوازي إلى تبرير هذا الحياد لدى الأميركي والأطلسي بقدرته على التحدّث مع الطرفين. ويُضاف إلى ما تَقدّم حاجة بينيت الشخصية إلى تعزيز مكانته في الداخل والخارج، في ظلّ استطلاعات الرأي التي تشكّك في إمكانية فوزه في أيّ انتخابات مفترضة. ولذا، فهو يعتقد أن بإمكانه توظيف «الوساطة» في مواجهة بعض الداخل، الذي تتعالى فيه أصوات تطالب بأن تكون إسرائيل منسجمة مع نفسها عبر الانحياز علناً إلى أوكرانيا.
في ما يتعلّق بالموافقة الأميركية على وساطة بينيت، فهي تعكس، إن صحّت، تفهّماً أميركياً إلى الآن للأداء الإسرائيلي. لكن بحسب صحيفة «هآرتس»، فإن لدى الأميركيين اعتراضات بالفعل، «وإسرائيل فسّرت ضوءاً أصفر لبِقاً من جانبهم على أنه ضوء أخضر برّاق، بالفعل الله يسترنا»، في ما يؤشّر إلى القلق من أن تفرض الولايات المتحدة على إسرائيل بعض القيود في العلاقة مع روسيا، وتلزمها بأداء أكثر انحيازاً إلى الغرب. لكن ما الذي دفع بينيت إلى التعريج على ألمانيا، حيث التقى المستشار أولاف شولتز لمدّة ساعة ونصف ساعة، قبل عودته إلى إسرائيل، على رغم أنه كان بإمكان محادثته هاتفياً وإطلاعه على مُخرجات اللقاء مع بوتين. حول ذلك، تشير بعض التقديرات إلى أن بينيت أراد استباق انتقادات محتملة في الغرب للقائه الرئيس الروسي، والإيحاء بأن لديه شركاء دوليين كباراً في الغرب في هذه المبادرة، فيما تتحدّث آراء أخرى عن أن المحطّة الألمانية تؤشّر إلى أن «ما يشغل بوتين حتى في خضمّ الحرب: تجديد مشروع خطّ أنابيب الغاز من روسيا إلى ألمانيا، نوردستريم 2، الذي جمّده الألمان كعقوبة فورية ضد روسيا بعد غزو أوكرانيا».
على أيّ حال، وعلى رغم أن لا مؤشّرات حتى الآن إلى إمكانية أن يغيّر الجانب الروسي أداءه، بما يُضيّق هامش حرية سلاح الجو الإسرائيلي في اعتداءاته في الساحة السورية، إلّا أن ما يقلق المؤسسة الأمنية في إسرائيل هو أن هذه الأزمة مفتوحة على العديد من السيناريوات، ومن الصعب الإحاطة بتداعياتها والتحوّلات التي يمكن أن تتسبّب بها على المستويَين العالمي والإقليمي. ولعلّ السيناريو الأبرز الذي تتخوّف منه تل أبيب، هو أن يؤدي تدحرج التطورات إلى دفع روسيا لتبنّي خيار تعزيز تحالفها مع أطراف «محور المقاومة»، ودعمه في سوريا والمنطقة، بهدف إنتاج معادلة جديدة من البوابة السورية والإقليمية مع المعسكر الغربي. وممّا يساهم أيضاً في تأجيج المخاوف في إسرائيل، هو أن كلّ ذلك يتزامن مع توالي المعطيات عن قرب التوصّل إلى اتفاق نووي يرفع العقوبات عن إيران.