على الرغم من آلاف الكيلومترات التي تفصل بين أميركا اللاتينية وجبهة القتال الدائر بين روسيا وأوكرانيا، إلّا أنه يبدو واضحاً أن هذه المنطقة ستكون من أبرز المتأثّرين بنتائج هذه الحرب وتداعياتها على المستوى العالمي، أخذاً في الاعتبار كونها باتت منذ عقود ساحة صراع بين النفوذ الأميركي الذي بدأ يَضمر فيها، وذلك الروسي - الصيني الذي لا يفتأ يوسّع رقعته هناك. واللافت أنه قُبيل شهرين من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وبينما كانت موسكو تحشد قوّاتها على الحدود مع جارتها، سُجّل موقف لنائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، أثار حفيظة الولايات المتحدة والغرب؛ إذ رفض فيه استبعاد أو تأكيد نيّة بلاده إقامة بنية تحتية عسكرية روسية في دول لاتينية حليفة، مثل كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا، ما أوحى بأن روسيا لا تستبعد إمكانية تفعيل أدوات ضغط "عابرة للقارّات" على غريمتها. منذ صعود الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى سدّة الرئاسة، بدأت تُظهر السياسة الخارجية الروسية اهتماماً متزايداً بمنطقة أميركا اللاتينية، خصوصاً على مستوى إعادة وصْل العلاقات التي كانت قائمة أيام الاتحاد السوفياتي. لم تكن المهمّة سهلة في بادئ الأمر، خصوصاً مع صعود التيار اليميني الشعبوي وتراجع نظيره اليساري في الضفة الجنوبية من القارّة. إلّا أنه مع عودة «المدّ الزهري» في السنوات الأخيرة، انفتحت فرصة أمام موسكو لإطلاق سلسلة شراكات اقتصادية وأمنية مع الدول اللاتينية. ولعلّ المواقف الصادرة عن الدول المذكورة بخصوص العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تنبئ بأن روسيا استطاعت بالفعل تثبيت موطئ قدم لها في تلك المنطقة، على نحو قد يمثّل تهديداً للأمن القومي الأميركي. وفي هذا المجال، وبينما دانت الدول الجنوبية اليمينية والحليفة للولايات المتحدة (كولومبيا، أوروغواي، البرازيل، وغيرها) العملية الروسية بشدّة وطالبت بإنهائها، أيّدت تلك اليسارية المعادية لواشنطن (كوبا، نيكاراغوا، فنزويلا) الهجوم، وعدّته دفاعاً عن الأمن القومي الروسي. لكن المفارقة أن دولاً كالمكسيك وتشيلي والأرجنتين، التي تَحكمها اليوم قوى يسارية، أظهرت نوعاً من الحياد - أمْيل إلى أوكرانيا - في مواقفها، إذ أعلنت مراهنتها على طريق الديبلوماسية لحلّ الأزمة، داعية إلى "عدم التدخل في شؤون الدول، واحترام مبدأ تقرير الشعوب لمصيرها".
منذ صعود بوتين إلى سدّة الرئاسة، بدأت تُظهر السياسة الخارجية الروسية اهتماماً متزايداً بمنطقة أميركا اللاتينية


مع ذلك، يكفي روسيا الدعم التي قدّمته لها «ترويكا الشرّ»، كما وصفها جون بولتون سابقاً، للتأسيس عليه في تعزيز حضورها في أميركا اللاتينية، وصولاً ربّما إلى محاولة تحقيق ردع عسكري متبادل مع واشنطن هناك. وفي هذا المجال، يعتقد الخبراء أن الحرب الاقتصادية الغربية المتصاعدة ضدّ موسكو، ستكون دافعاً للأخيرة للمضيّ قُدُماً في نشر معدات عسكرية في أميركا الجنوبية، مُعيدين إلى الذاكرة إرسال روسيا قاذفات قنابل ذات قدرة نووية من طراز «Tu-160»، وسفناً حربية من طراز «بطرس الأكبر» إلى منطقة الكاريبي خلال الحرب الجورجية عام 2008، وتكرار إرسالها إياها خلال الأزمة الفنزويلية عامَي 2018 و2019، إضافة إلى إعلانها اعتزامها إقامة قاعدة جوية في جزيرة لا أوركيلا الفنزويلية.
وعن النتائج المحتملة لخطوات كهذه، نشر معهد «ELCANO ROYAL» الإسباني، في وقت سابق من الشهر الجاري، مقالاً تحليلياً للباحثين كارلوس مالامود وميرا ميلوسيفيتش-جواريستي وروجيليو نونيز كاستيلانو، رأوا فيه أن الدور الذي قد تلعبه بعض دول أميركا اللاتينية في خلال أزمة أوكرانيا وبعدها «ليس ثانوياً، وهو ما كانت قد لعبته كوبا في أزمة الصواريخ عام 1962، ونيكاراغوا في الثمانينيات، ويتكرّر بشكل دوري». وأضافوا أن «هذه الخطوات ستفتح الباب أمام روسيا لتعميق علاقاتها التجارية» مع الدول اللاتينية، خصوصاً بعد العقوبات القاسية التي فُرضت عليها. والجدير ذكره، هنا، أنه على الرغم من أن العلاقة التجارية قد نمت بين روسيا وأميركا الجنوبية خلال فترة حكم بوتين، إلا أنها لا تزال تعدّ منخفضة، حيث لا تتجاوز واردات موسكو من العواصم اللاتينية 5% من إجماليّ التجارة الروسية، أمّا الصادرات فتشكل 2% فقط. ومن هنا، يعتقد كُتّاب المقال أن تعزيز روسيا موقعها عسكرياً في أميركا الجنوبية، سيسمح لها بـ«تقديم نفسها كجهة فاعلة لها مصالح وحضور عالمي، مع مشروع لنظام دولي جديد مدعوم من قِبل الحلفاء من الشرق إلى أميركا الجنوبية". والظاهر أن فنزويلا، خصوصاً، ستكون ساحة متقدّمة في خضمّ ذلك النزاع، بدليل التركيز العسكري الإيراني والروسي عليها. وفي هذا المجال، بدا لافتاً ما أعلنه وزير الحرب الإسرائيلي، بيني غانتس، الأسبوع الماضي، من أن إيران تُخطّط لإرسال طائرات من دون طيار، مسلّحة بذخائر موجهة إلى فنزويلا.