وحدها الولايات المتحدة الأميركية من يملك حق «الدفاع» (الهجوم) عمّا تعتبره مصالحها (أطماعها). أمّا تعريفها لهذه المصالح فمطّاط وبلا حدود ويشمل، إلى التأثير المباشر والثقيل على توجّهات الدول وسياساتها، الاستحواذ على ثرواتها، أو في الحد الأدنى مقاسمتها إيّاها. مصالح الولايات المتحدة عابرة للديموقراطية التي تتغنّى بها، وكذا هي الحال مع القوانين والمعاهدات والاتفاقات وغيرها الكثير من المحدّدات والقيم التي ترعى الاجتماع الإنساني أو تنظّمه. وبالنسبة إليها، فإن المقارنة بين حقوقها المدّعاة وبين حقوق غيرها من الشعوب والدول ممنوعة. لذا، فإنها لا تتورّع عن مصادرة حقوق الآخرين وتخويل نفسها ما تمنعه عن غيرها. فقوانينها الخاصة قوانين دوليّة عابرة للزمان والمكان. بل إن فعل المقارنة، في عرفها وعرف تابعيها من أدوات (دول وجماعات وأفراد)، يرقى إلى الخطيئة التي تستوجب وللفور فرض الحصار وشنّ الحروب وتحطيم الدول وتبديد المجتمعات (أفغانستان، العراق، سوريا، فلسطين، اليمن،...). فالحروب الأميركية التي أحرقت العالم، من أقصاه إلى أقصاه، والتي لا هدف لها غير دوام السيطرة ورسوخ الاستئثار هي حق لا يقبل النقاش. وهو، في التعريف والممارسة الغربيّين، حقّ يرقى إلى أن يكون من أحكام الطبيعة وقوانين الواقع الموضوعي. ولأن الأمر كذلك (وهو كذلك حتى إشعار يرجّح أنه لم يعد بعيداً)، فإن آلام الآخرين، كل الآخرين، وأوجاعهم وضحاياهم، لا تقارن، ولا يجب أن تقارن، باحتمال تكدّر خاطر «جندي» (إرهابي) أميركي في أفغانستان أو العراق...وعليه، فإنّ لا نقاش في إجراميّة الممارسات الأميركية وعدوانيّة أفعالها المسؤولة عن إشعال الحرب الجديدة في أوكرانيا والدفع نحوها، فضلاً عن كل الأكلاف الإنسانية التي ستنجم عنها. إلا أن النقاش، وبالرغم من لا جدواه، يجب أن يجري مع «عاشقي» الأمركة من «مثقفي» العرب وكتّابهم، الذين لا يملكون، عند كل حدث محلي أو إقليمي أو دولي، إلا تأكيد ذيليّتهم وتبعيّتهم بالضد من مصالح شعوبهم. فهؤلاء الذين ارتضوا لعب دور التابع الذليل أو المهرّج الأبله، سارعوا، كعادتهم، إلى تبنّي الأكاذيب الأميركية والأوروبية التي سبقت الحرب ومهّدت لها والتسويق لها. لكن وجاهة الأسباب الروسية، وحقيقة الحرب العادلة التي تخوضها، أربكتهم وفضحت ركاكتهم. فكان أن لجأوا إلى المماثلة الغبيّة بين حروب الولايات المتحدة الأخيرة التي شنّتها ضد فيتنام والعراق وأفغانستان وسوريا... وبين الحرب التي أُجبر (نعم أُجبر) فلاديمير بوتين على خوضها دفاعاً عن أمن بلاده القومي وتالياً عن أمن العالم وتوازنه المفقود بجوهره القائم على التعدّد والتنوّع والغنى. إن المماثلة البلهاء هذه، وهي المشترك الأساس بين كمّ (مجرّد كمّ مكرّر ولا قيمة فعليّة له) التعليقات والتحليلات التي سبقت أو تلت إعلان بوتين تكشف، مرّة جديدة، عن عمق الاستلاب وفداحته. خصوصاً أنه استلاب مفضوحٌ ويقوم على استبطان ببغائيّ يتعامى عن الحقائق والسياقات التي أفضت إلى ما يعيشه العالم من حرب يُنذر التعنّت الإجرامي الغربي بأن تتطوّر. إنّ ما يقوم به بوتين، وبالرغم من أهدافه التي قد تكون محدودة بحفظ روسيا وحمايتها، يرقى إلى أن يكون تلبية متأخّرة لنداء الفطرة الإنسانية وسعيها المحموم إلى التخلّص من نير الهيمنة الذي أباد شعوباً ونهب ثروات. وهي الهيمنة التي ترفض التنوّع والتعدّد، تارة باسم التفوّق وطوراً باسم الريادة وغيرها من الفبركات التي لا أساس لها غير امتلاك القوّة العسكرية والتهديد الدائم بإشعال الحروب.
وإلى المماثلة البلهاء أو المأجورة ثمّة من لم يتورّع عن اعتبار الحرب فعلاً ابتدائياً روسياً لا دور للآخرين فيه. غافلاً أو متغافلاً عن سياقات الهجوم الأميركي الهادف إلى إسقاط روسيا وتفتيتها بعد محاصرتها بالقواعد العسكرية ونشر الأسلحة وتحريض جيرانها عليها. إنّ أساس الحرب التي دُفعت موسكو نحوها، وهي، وبكل المعايير والمفاهيم، حربٌ بحت دفاعيّة، كامن في السياسات العدوانيّة الأميركية وفصول الحرب المفتوحة والمستمرّة والتي لم تتوقّف ضدّها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
ساعة بعد أخرى، يتأكّد، وبالملموس، وربطاً بالسعار الغربي، والمشاركة الأوروبية الميدانية في الحرب، والإعلان عن بدء تعبئة المتطوّعين (المرتزقة) إنها أبعد من أن تكون حرباً بين روسيا ورقعة مرتجلة تحمل اسم أوكرانيا. إنها أوسع وأكبر من ذلك بكثير. إنها حرب ضواري العالم وكواسره ضد روسيا.
كسر أميركا (والغرب) وهيمنتها أوّل الطريق الموصل إلى غد أقل ظلماً طالما داعب مخيّلة ثوّار العالم وألهم أحراره


لغيرنا أن يلعب دور المهرّج وأن يتظاهر برفضه للحرب. أمّا نحن فقد اخترنا، وهذا واجبنا كأحرار وأصحاب مبادئ ودعاة عدل، الوقوف مع الحرب العادلة التي يخوضها فلاديمير بوتين بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن شعوب العالم التي أرهقتها الهيمنة الغربية ومنعت عنها الهواء والشمس.
لم يسبق للعالم أن كان على هذا القدر من الاختلال واللاسوية. ولا هذا القدر من انعدام العدالة. فمنذ التفرّد الأميركي في حكم العالم والإنسانية تغرق في ظلام دامس غيّب الحقوق، ولو بحدها الأدنى، وطمس المسؤوليات. مكتسبات إنسانية هائلة توّجت نضالات دامت عقوداً انهارت وتنهار مع شمس كل يوم: من حق العمل إلى حق الطبابة إلى الحق في الغذاء والمسكن... والغابة التي أدخلتنا إليها الداروينية الاجتماعية والهلوسات المالتوسية تزداد شراسة ووحشية. وصار النبذ والاستبعاد والإقصاء والحرب والتبديد هو العقاب لكل من تسوّل له نفسه المطالبة بواحد من هذه الحقوق. فالمهيمن الأميركي، ومعه أتباعه من نخب الغرب، جعلوا من حياة الإنسان جحيماً لا يطاق. والأغلال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تزيّن حياة الملايين والملايين من شعوب الأرض.
روسيا ليست الاتحاد السوفياتي، ولا يمكن لها أن تكون، ومع ذلك لا يملك العالم إلا أن يسأل فلاديمير بوتين أن يمضي إلى الأمام. فكسر أميركا (والغرب) وهيمنتها أوّل الطريق الموصل إلى غد أقل ظلماً طالما داعب مخيّلة ثوّار العالم وألهم أحراره. ولأن «الصدفة» شاءت لبوتين أن يحمل هذه الراية، راية مواجهة الولايات المتحدة وأتباعها، فهو بالنسبة إلى كثيرين من جياع العالم وفقرائه ومسحوقيه، يحمل مطرقة العدالة ومنجلها الذي آن له أن يحصد رقاب قلّة بيضاء متخمة أنهكت الإنسانية جرّاء أنانيّتها وأطماعها وحروبها التي لا تعرف الحدود.