لندن | علنياً، تستمرّ الصين في التزام سياسة حياد ميّالة إلى روسيا، لكن الأمور على الأرض بين البلدين تتبع منطقاً آخر تماماً على ما يبدو، حيث يتكرّس، بحُكم تطوّر الأحداث في أوروبا، والعداء الأميركي المتصاعد ضدّ موسكو وبكين معاً، تحالف استراتيجي جرى التأسيس له برويّة خلال العقد الأخير. وبينما لا ترغب الصين، بأيّ شكل، في إثارة المتاعب لعلاقاتها التجارية الضخمة والمتشابكة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية ــــ الصين مثلاً الشريك التجاري الأوّل لأوكرانيا ــــ، وتعتمد بشكل منهجيّ سياسة دبلوماسية حذرة تتجنّب الدخول في صراعات الآخرين وتدعو إلى حلّ الخلافات عبر التفاوض، فإنها تتّجه إلى لحظة قد يتعيّن عندها اتّخاذ موقف حاسم تجاه تحالفها مع موسكو.ويتجنّب الأوروبيون إلى الآن ــــ كما الأميركيون ــــ توجيه انتقادات حادّة أو مباشرة للصين بشأن تفهّمها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا؛ إذ تدرك جميع الرؤوس الحامية من بروكسل إلى واشنطن، أن إغضاب بكين في هذه المرحلة الحرجة من الصراع المفتوح مع موسكو، سيعني خطوة حمقاء بكلّ المقاييس ستعجّل من انتهاء هيمنة الغرب المتفردة على العالم في وقت قياسي ــــ قد يكون سنوات وليس عقوداً ــــ. لكن بحسب مطّلعين على تفاصيل ما يجري في كواليس «الحزب الشيوعي الصيني» الحاكم، فإن الحسابات الصينية هذه المرّة ليست تجاريّة بالمطلق، وإنّما تتعلق أساساً بالسياق الاستراتيجي الذي انتهت إليه العلاقات الأميركية ــــ الصينية، حيث تُناصب نخبة واشنطن العملاق الآسيوي العداء، بوصفه التهديد الأخطر لهيمنة الولايات المتحدة الشاملة على العالم. ومن هنا، قد يسعى الجناح القوميّ التوجّهات في «الشيوعي» إلى استغلال تخلخل النظام العالمي الحالي لضمّ جزيرة تايوان، وإنهاء محاولات التمرّد المدعومة أميركياً.
بنت الصين قاعدة عريضة للتصنيع المتكامل خلال السنوات العشر الماضية


ويقول خبراء إن العلاقة بين موسكو وبكين تعزّزت أيضاً بسبب العلاقة الشخصية الوثيقة بين الرئيسَين فلاديمير بوتين، وشي جينبينغ. وفي الواقع، فإن الصين اليوم تُمثّل بشكل أو بآخر أهمّ رصيد لروسيا، والجدار الصلب الذي تستند إليه القيادة الروسية في منازلتها الجارية مع الغرب. وقد رفعت الصين، قبل أيّام، كلّ القيود على استيراد القمح والحبوب من جارتها الشمالية، وزادت بشكل كبير من واردات النفط منها، لتزيح السعودية من مكانة مورّدها الرئيسي للنفط. كما وقّعت شركة «غازبروم» الروسية وشركة البترول الوطنية الصينية، هذا الشهر، اتفاقاً لمدّة 25 عاماً، يتعلّق بإمدادات الغاز عبر خطّ أنابيب يجري العمل به عبر سيبيريا، فيما أعلنت موسكو عن صفقة لعدّة سنوات لبيع 100 مليون طن من الفحم إلى الصين، وهو عقد تزيد قيمته على 20 مليار دولار. وبلغ حجم التجارة السنوية بين البلدين، العام الماضي، ما يعادل 145 مليار دولار، وهو في نموّ سنوي متراكم بنسبة من رقمين منذ 2013. وروسيا هي أكبر متلقٍّ للقروض من الصين، حيث بلغ مجموعها ما يعادل 151 مليار دولار بين عامي 2000 و2017، منها 86 مليار دولار من الديون الميسرة وشبه الميسرة من بنوك السياسة العامة والبنوك التجارية المملوكة للدولة في الصين، مضمونة مقابل الإيرادات المستقبلية من صادرات النفط.
ومن المُتوقع أن توفّر الصين لروسيا هامشاً للمناورة ضدّ الحصار المالي والاقتصادي الأميركي من خلال البنوك الحكومية الصينية، وتجنّب الحاجة إلى التعامل بعملات دول الشمال (الدّولار واليورو والاسترليني والين). وعلى الأغلب، فإن الصين أقدر الآن، من أيّ وقت مضى، على مواجهة عقوبات عليها إذا قرّرت الولايات المتحدة معاقبتها على مساندتها لروسيا. وهي بنت بالفعل قاعدة عريضة للتصنيع المتكامل خلال السنوات العشر الماضية، على نحو قلّل بشكل كبير من الاعتماد على استيراد التكنولوجيات الغربية والمكوّنات الصناعية.