لندن | في الوقت الذي يدرس فيه الأميركيون نقلتهم التالية لمعاقبة موسكو، بسبب موقفها الحاسم من توسُّع عضوية حلف "الناتو" نحو أوكرانيا، وإعلانها الأخير الاعتراف باستقلال منطقتَي إقليم دونباس، إلّا أن محدوديّة أوراق القوّة التي تملكها واشنطن تدفعها إلى تكثيف اعتمادها على سلاح الحصار الاقتصادي، وفرض العقوبات. وبحُكم أن التبادلات المالية والتجارية بين الولايات المتحدة وروسيا محدودة أصلاً - أقلّ من عُشر حجم التجارة الروسية مع أوروبا، وتخضع، بالفعل، للعديد من العقوبات التي فُرضت في مناسبات سابقة -، تضغط واشنطن على حلفائها في أوروبا - لا سيّما ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبولندا - للانخراط في حرب مقاطعة اقتصادية وماليّة شاملة، تستهدف خنق الشعب الروسي، وتأليبه على النظام. لكن الأوروبيين، وإن تظاهروا مرحليّاً بمجاراة الأميركيين، لكنهم يدركون تماماً أن الخاسر الأكبر من مثل تلك الحرب، لن يكون سوى شعوب القارّة القديمة، التي سيتعيّن عليها أن تخطو بعينَين مفتوحتَين نحو كارثة اقتصادية، ستفتح الباب أمام اضطرابات اجتماعية وتحوّلات سياسية لا يُعرف منتهاها. وكان الأوروبيون قد هدّدوا، بصرامة، بإمكانية فرض عقوبات قاسية على روسيا، حتى قبل أن يُرسل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، «قوات حفظ سلام» إلى مقاطعتَي دونيتسك ولوهانسك، ليلة الاثنين الماضي، بعد اعتراف موسكو بـ«استقلالهما». وتعهّدت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بعزل روسيا عن النظام المصرفي الدولي، فيما هدّد رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، بأن الشركات الروسية لن تكون قادرة على إجراء أيّ معاملات بالدولار الأميركي أو الجنيه الاسترليني. وحتماً، سيؤدّي فرض حصار ماليّ كهذا، إلى انعكاسات سلبية على الاقتصاد الروسي، في المديَين القصير والمتوسّط، ولكن موقف الاتحاد الأوروبي لا يستند إلى أرضيّة ثابتة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بواردات دول الاتحاد من مختلف موارد الطاقة الروسيّة البالغة الأهمية، والتي توفّر، عبر المدفوعات الأوروبية بالعملات الصعبة، أكثر من ثلث ميزانية موسكو. فضلاً عن ذلك، لا يمتلك أحد في بروكسل تصوّراً واضحاً بشأن ما إذا كانت العقوبات المالية ستشمل تجارة الطاقة، كما لا يتوقّع أحدٌ الخطوة الروسية التالية، الأمر الذي سيجعل أمر استمرار تلك الإمدادات الحيويّة لأوروبا، غير ممكن عمليّاً.
ومن المعروف أن أجزاء واسعة من أوروبا موصولة بخطوط أنابيب إمدادات «غازبروم» الحكومية الروسية، وأن بروكسل لم تُحرز أيّ تقدّم يُذكر في الحدّ من الاعتماد عليها، كما كانت وعدت بعد استرداد روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014. وبحسب الإحصائيات، فإن أكثر من ثلث إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز، في عام 2020، أتت من روسيا، بعدما كانت بحدود الربع فقط، في عام 2010. وقد ارتفعت هذه النسبة، العام الماضي، إلى أكثر من 42 في المئة عبر الأنابيب وحدها، من دون احتساب شحنات الغاز الطبيعي المسال. إضافة إلى ما تقدّم، تُهيمن الولايات المتحدة، بحُكم سطوتها العسكرية، على توجّهات السياسات الخارجية للدول الأوروبية، منذ عام 1945. ولذلك، تجد حكوماتها نفسها عالقة بشدّة بين اضطرارها للخضوع لتعليمات واشنطن، وتعطُّشها لموارد الطاقة اللازمة لإدامة الرفاهية والتقدّم الصناعي والتكنولوجي لشعوبها. ولعلّ أوضح مثال على ذلك، كان تعليق رئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراغي، يوم الجمعة الماضي، بشأن ضرورة ألّا تشمل العقوبات على موسكو قطاعات الطاقة "لتكون فعّالة، ولكن مستدامة". وقد حاولت فون دير لاين التخفيف من حدّة تصريحات دراغي، بقولها إن "جميع الخيارات مطروحة على الطاولة، عندما يتعلّق الأمر بقطاعات الطاقة". ولكن من ناحية واقعية، من الصعب تصوُّر بروكسل - مقرّ الاتحاد الأوروبي - قادرة على حشد الإجماع المطلوب حول عقوبات تمسّ تلك القطاعات الحرجة، من دون دعمٍ من دولة مهمّة مثل إيطاليا.
يبقى المخرج الوحيد أمام الأوروبيّين من هذا المأزق الاستراتيجي، هو المساعدة على الوصول إلى حلّ وسط


من جهتها، تبدو ألمانيا - أكبر اقتصاد في أوروبا - غير متحمّسة أيضاً لأي قيود على تدفّقات الغاز من روسيا، والتي أرادت توسيعها عبر خطّ أنابيب "نورد ستريم 2" الاستراتيجي، على رغم كلّ التحفّظات الأميركية. ومع أن المستشار الألماني الجديد، أولاف شولتز، اضطرّ للإعلان عن تجميد الترخيص بالعمل بـ"نورد ستريم"، الممتدّ من الساحل الروسي إلى شمال ألمانيا تحت بحر البلطيق، ردّاً على اعتراف موسكو باستقلال دونيتسك ولوهانسك، إلّا أن ذلك لا يعني بالضرورة إلغاء المشروع. إذ إن رولف موتزنيتش، زعيم المجموعة البرلمانية لـ«الديموقراطيين الاشتراكيين» - حزب المستشار شولتز - في "البوندستاغ" الألماني، لم يُخف أن "الآثار السلبية على الاقتصاد تعدّ اعتباراً مهمّاً، ينبغي عدم إغفاله عند الحديث عن عقوبات اقتصادية وماليّة على (الشريك) الروسي". كذلك، حذّرت جمعية صناعة الغاز في ألمانيا من أن ارتفاع أسعار الطاقة والغاز "يهدّد بسحق الاقتصاد"، مضيفة أن "الوضع خطير إلى درجة أنه حتى الشركات المتوسّطة الحجم من مختلف القطاعات، قد تضطرّ إلى التفكير في الانتقال إلى الخارج". فضلاً عن كلّ ما تقدّم، يهدّد اللعب بالروليت الروسيّة التحالف الحكومي الهشّ الذي يقوده شولتز، لا سيما أن خطط تخضير الاقتصاد التي شكّلت دعامة مهمّة للبرنامج الحكومي، ستصبح في مهبّ الريح عند الدخول في أزمات طاقة هائلة، وسيجد الألمان - أفراداً ومؤسسات - أنفسهم في مواجهة تضخّم خرافي في فاتورة الطاقة اللازمة لتدفئة المنازل، وتشغيل مصالح الأعمال. والحقيقة أن الغاز ليس سوى عنصر واحد من عناصر اعتماد أوروبا العميق على الطاقة الآتية في روسيا، إذ تستورد دول الاتحاد الأوروبي نصف وارداتها من الفحم الصلب من روسيا، كما أنها الشريك الرئيس في النفط الخام، متقدّمة بفارق كبير على النروج وكازاخستان والولايات المتحدة.
والسؤال السياسي المطروح على الزعماء الأوروبيين، اليوم، هو عمّا إذا كان مواطنو أوروبا على استعداد لتقديم تضحيات باهظة، من أجل إرضاء واشنطن. إذ إن الأميركيّين يمتلكون سلطة لفرض واقع الحصار على روسيا، من دون المرور بموافقة الأوروبيين، وذلك عبر تبنّي عقوبات حصار مماثلة لتلك التي تستخدمها الولايات المتحدة حالياً ضدّ إيران وفنزويلا، حيث تتمّ معاقبة أيّ جهة في جميع أنحاء العالم تتعامل مع شركات أو قطاعات محدّدة تخضع بالفعل للعقوبات الأميركية. وبالتأكيد، فإن اللجوء إلى النهج نفسه اليوم سيصيب اقتصاديات الاتحاد الأوروبي في مقتل، فيما سيجد الروس دائماً وسائل أخرى لتصدير طاقتهم ومعادنهم الثمينة إلى شركاء آسيويين، لا سيّما الصين. والأخيرة، وعلى رغم هدوئها الملحوظ بشأن التصعيد في الأزمة الأوكرانية، إلّا أن المتحدّث باسم وزارة خارجيتها قال، الأسبوع الماضي، إن بلاده "تعارض بشكل كلّي الاستخدام الغاشم، أو التهديد بفرض عقوبات أحادية الجانب في العلاقات الدولية". يبقى المخرج الوحيد أمام الأوروبيين من هذا المأزق الاستراتيجي، هو المساعدة بشكل حثيث على الوصول إلى نوع من حلّ وسط يرضي الجانب الروسي، ويحفظ ماء وجه الولايات المتحدة، في آنٍ واحد، في مهمّة ليست سهلة على الإطلاق، كونها تتطلّب تنازلات أميركية لا يبدو أن نخبة واشنطن مستعدّة بعد لتقديمها. وحتى ذلك الحين، فإن كلّ العيون ستكون مسلّطة على بروكسل، وبالأحرى على برلين.