على رغم كون الاتفاق الذي يُنتظر أن يتمّ التوصّل إليه في فيينا «أسوأ» من اتفاق 2015، بالنسبة إلى إسرائيل، إلّا أن التقدير السائد لدى دوائر القرار في الأخيرة هو أن هذه النتيجة تظلّ أفضل من إبقاء إيران طليقة اليدين. مع ذلك، وبالنظر إلى أن الاتفاق العتيد لا يفعل أكثر من تجميد المسار النووي الإيراني، من دون أن يسلب طهران ما كانت توصّلت إليه عقب انسحاب دونالد ترامب من «خطّة العمل المشتركة الشاملة»، فإن القلق الإسرائيلي يتركّز على اليوم التالي لانتهاء صلاحية الصفقة، أو الانسحاب الأميركي الثاني منها - في حال وقوعه -، فضلاً عما ستستجلبه من مكاسب مباشرة لإيران وحلفائها، سواءً على المستوى الاقتصادي، أو على مستوى الردع وحافزية المواجهة
بالنسبة إلى إسرائيل، بات الاتفاق النووي الجديد في متناول يد الإيرانيين، وهو مصحوب بفوائد ومكتسبات اقتصادية ومالية، يبدو أن نتائجها لن تنحصر فقط في حدود تعظيم قدرة الجانب الإيراني على المواجهة والردع، بل ستمتدّ أيضاً إلى حلفائه في المنطقة، والذين سيكونون أكثر قدرة على المبادرة ضدّ تل أبيب وأمنها ومصالحها. هذه «المساوئ» المتوقّعة، من وُجهة نظر الكيان العبري، تتفرّع جميعها من «الثغرة» الأولى، والمتمثّلة في أن الاتفاق العتيد لن يحدّ أو يقلّص من القدرة الإيرانية النووية مقابل رفع العقوبات عن طهران. وهنا، تبدو كفّتا الكلفة والجدوى غير متساويتَين؛ إذ سيكون على إيران أن تُجمّد أنشطتها النووية إلى الحدّ الذي كان قائماً قبل انسحاب الأميركيين من اتفاق عام 2015، من دون وجود ضمانات بعدم عودتها إلى تجاوز ذلك الحدّ، في حال قرّرت واشنطن الانسحاب مرّة أخرى.
بتعبير أوضح، ستحتفظ إيران بكمّيات اليورانيوم التي كانت خصّبتها بمستوى ستين بالمئة، والتي لن يتمّ إخراجها من البلاد أو إتلافها. كما ستحتفظ بأجهزة الطرد المركزي المتطوّرة التي جرى تركيبها وتشغيلها في مرحلة المفاوضات والضغوط المتبادلة بين المتفاوِضين. وبالتالي، سيكون بإمكان طهران استئناف أنشطتها النووية من حدود المعرفة والخبرة والناتج المادي التي توصّلت إليها عقب انسحاب إدارة دونالد ترامب من «خطّة العمل المشتركة الشاملة»، في حال وقوع أيّ تطوّر مماثل مستقبلاً، الأمر الذي ستضعه أيّ إدارة أميركية جديدة في اعتبارها قبل أن تفكّر باتّخاذ قرارٍ بالانسحاب مجدّداً. هو إذاً اتّفاق على تجميد الأنشطة النووية - لا إلغائها -، مقابل إلغاء العقوبات، وها هنا تكمن «العلّة» الرئيسة بالنسبة إلى إسرائيل؛ فالاتفاق لا يحدّ من التهديد النووي الإيراني الذي يمثّل تهديداً وجودياً للدولة العبرية، بل يرجئ انفلاته إلى أجلٍ ما، قد يكون انتهاء صلاحية الصفقة أو خروج واشنطن منها ثانية، لتُشرَّع الأبواب أمام طهران عندها من أجل معاودة نشاطاتها النووية من دون قيود.
تجهّز إسرائيل نفسها لنوع آخر من المواجهة، ستكون مستوياته وساحاته بعيدة من المجال النووي


هكذا، تكون إيران خرجت من معركة الملفّ النووي، بأقلّ أضرار ممكنة - بل وبمكاسب -، فيما سيكون عليها، من الآن وحتى ما بعد عامين ونصف عام، أي موعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بلورة خيارات لمواجهة انسحاب أميركي محتمل ثانٍ، ومن ذلك إعداد آليات للالتفاف على العقوبات في حال أُعيد فرضها عليها، وهي التي راكمت خبرة غير سهلة في هذا الحيّز. في المقابل، سيفرض الاتفاق على كلّ من واشنطن وتل أبيب قيوداً لن يكون في استطاعتهما تجاوزها، لكنّ إسرائيل باتت تُجهّز نفسها لنوع آخر من المواجهة، ستكون مستوياته وساحاته بعيدة من المجال النووي، ناهيك عن المواجهة المتواصلة في ساحات «محور المقاومة»، والتي ستجد نفسها في أعقاب إحياء الصفقة أكثر قدرة على مجابهة الضغوط المُسلَّطة عليها.
لكن هل ثمّة، بالفعل، فرص أمام إسرائيل لجنْي مكاسب ودرء مخاطر من خلال تلك الاستراتيجية؟ بحسب ما تعتقده الأوساط الأمنية في الكيان العبري، فإن «الاتفاق على مساوئه أفضل لإسرائيل من انتفائه»، على اعتبار أن إيران، في حال اللااتفاق، ستكون في حِلّ من أيّ التزامات بخصوص برنامجها النووي، في ظلّ بيئة دولية باتت أكثر مؤاتاةً للتملّص من العقوبات وتخفيف آثارها، فضلاً عن محدودية قدرة خصوم طهران على انتهاج خيارات متطرّفة ضدّها لأكثر من سبب ذاتي وموضوعي. وعليه، فإن الاتفاق الذي يجمّد النشاط النووي لعامين ونصف عام على أقلّ تقدير، يظلّ أفضل من إطلاق اليد الإيرانية النووية. وفي هذا الإطار، يتحدّث البعض في تل أبيب عن أن ثمّة مدًى زمنياً معقولاً أمام إسرائيل للتجهيز للخيار العسكري الخاص بها، لكن ذلك الحديث بات مستهلَكاً وأقرب إلى «شيخوخة التفكير». وهكذا، بعد عامين ونصف عام، إمّا يموت الملك، أو يموت الحمار، أو يتكشّف العجز الإسرائيلي.