موسكو | خلافاً لما أسهب الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، في ترويجه على مرّ الأسابيع الماضية، من غزو روسي وشيك لأوكرانيا، لم تُقرع طبول الحرب في موسكو، وهو ما لا يُتوقّع أن يحدث لا غداً ولا بعد غد، بحسب تأكيد المسؤولين الروس. على أن الغزو الذي لم يقع على الأرض، يبدو أنه بات يؤتي أكله لمجرّد حشد عشرات الآلاف من الجنود على الحدود الأوكرانية - الروسية بما أوحى بنيّة القتال؛ إذ إن بوادر تراجع غربي بدأت بالظهور لدى حديث موسكو عن تجاوب أميركي - أطلسي مع مطالبها، لتتسارع التوقّعات بإمكانية التوصّل إلى تسوية للأزمة، التي يَظهر واضحاً أن تداعياتها الاستراتيجية ستستمرّ طويلاً
مرّ يوم أمس، كأيّ يوم عادي في روسيا؛ إذ إن طبول الحرب على أوكرانيا لم تُقرع بحسب الموعد الذي حدّدته واشنطن. وأعاد ممثّل روسيا الدائم لدى الاتحاد الأوروبي، فلاديمير تشيجوف، التأكيد أنه «لن يكون هناك غزو لأوكرانيا اليوم (أمس)، ولا تصعيد خلال الأسبوع أو الشهر المقبلَين». ومع تراجُع النفير الغربي، سادت أجواء أنبأت بأن حلّاً ما للأزمة ربّما يجري طبخه في الأروقة الديبلوماسية، خصوصاً أن الجنود الروس المشاركين في التدريبات العسكرية في جزيرة القرم، قد عادوا إلى قواعدهم الدائمة، بحسب ما أعلنت وزارة الدفاع الروسية. وعلى رغم بثّ الوزارة صوراً لسحب جنودها، إلّا أن واشنطن و«الناتو» شكّكا في الرواية الروسية، فيما أعلنت بيلاروس أنه لن يبقى أيّ جندي روسي على أراضيها بعد انتهاء مناورات «حزم الاتحاد»، يوم 20 شباط الحالي.
ومع استمرار الحراك الديبلوماسي، بدت لافتةً الإشارات التي خرجت من موسكو عبر الرئيس فلاديمير بوتين، ووزير الخارجية سيرغي لافروف، حول وجود نقاط في ردود الولايات المتحدة و«الناتو» على المقترحات الروسية تمكن مناقشتها. إذ أعلن لافروف أن واشنطن و«حلف شمال الأطلسي» ردّا في وثائقهما بشكل إيجابي على المبادرات الأمنية الروسية التي كانا يرفضانها منذ فترة طويلة، لتبقى الأنظار متّجهة إلى الردّ الروسي الذي سيُكشف عنه بعد أيام، بحسب لافروف. وفي المقابل، صدرت تصريحات من واشنطن ولندن حول موضوع انضمام أوكرانيا إلى «الأطلسي»، توحي بأن الغرب يريد تخفيف حدّة الأزمة عبر الحديث عن تبدّل في النظرة حيال هذه المسألة، لكن بوتين شدّد، بُعيد لقائه المستشار الألماني، أولاف شولتز، على ضرورة حسم هذا الموضوع «اليوم قبل الغد، عبر عملية تفاوضية وسلمية»؛ ذلك أن الأمر محسوم بالنسبة إلى موسكو، وهو أن انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى «الناتو» ممنوع مهما كلّف الأمر، بينما على الحلف أن يعيد حساباته بما يضمن عدم تضرّر الأمن القومي الروسي.
أعلنت وزارة الدفاع الروسية عودة جنودها من جزيرة القرم بعد انتهاء التدريبات


ولأن الثقة بين روسيا والغرب منعدمة بناءً على تجربتَي يوغسلافيا وليبيا، وعدم التزام الحلف بالاتّفاقات المُوقَّعة مع روسيا حول تمدّده في أوروبا الشرقية ودول البلطيق، كان الرئيس الروسي حاسماً لناحية ضرورة إيجاد حلّ سريع لهذه الإشكاليات، وعدم المماطلة فيها، لأن التجربة أكدت لموسكو أن الغرب «خلال العملية التفاوضية، سيتّخذ قرارات قد تؤدّي إلى تدهور أوضاعنا بصورة خطيرة كما كان يحدث في السنوات الماضية، هذا بلا شكّ ما ندركه وما نناقشه، وما لن نقبل به بأيّ حال»، بحسب بوتين. وفيما تمثّل أوكرانيا جزءاً أساسياً من الأزمة، إلّا أن الأخيرة تمتدّ لتشمل الأمن الأوروبي والعالمي. وبناءً على ما سيتمّ إرساؤه من حلول للمعضلة في شرق أوكرانيا، يمكن تصوُّر نتيجة المفاوضات حول الضمانات التي تطالب بها موسكو. وفي حين يَنتظر الكرملين أن يمارس الغرب، وخصوصاً «مجموعة النورماندي» (ألمانيا، وفرنسا) ضغطاً على كييف، لدفعها إلى الامتثال لـ«اتفاقات مينسك»، بما يضمن إرساء تسوية هناك، أعلنت كييف أنها تدرس بعض الوثائق المتعلّقة بمسألة إجراء الانتخابات في دونباس و«الوضع الخاص» للمنطقة، وهو ما رأى فيه الباحث في «مركز الدراسات الأوروبية» في «معهد موسكو للعلاقات الدولية» التابع لوزارة الخارجية، أرتيوم سوكولوف، أنه نتيجة للضغط من الديبلوماسية الألمانية. ولفت سوكولوف إلى أن ذلك الإعلان يمكن اعتباره «خطوة أولى» في إطار تحقيق مطالب موسكو من الغرب.
في هذا الوقت، جاءت مطالبة مجلس الدوما لبوتين بالاعتراف بجمهوريتَي لوغانسك ودونيتسك، وهو ما فُسّر على أنه ورقة ضغط روسية إضافية على الغرب. لكن الرئيس الروسي كان واضحاً بأن هذه الخطوة لا ضرورة لها إذا ما التزمت كييف بـ«اتفاقات مينسك». ومع ذلك، أعرب الكرملين عن قلقه من احتمال شنّ هجوم أوكراني على دونباس، لافتاً إلى أن المؤشّرات إلى هجوم كهذا «مرتفعة للغاية، وأعلى من ذي قبل»، في حين أكد الممثل الدائم لروسيا لدى الاتحاد الأوروبي، فلاديمير تشيجوف، أنه «إذا شنّ الأوكرانيون هجوماً على روسيا، فلا تتفاجأ إذا قمنا بالردّ»، مشدّداً على أن الهجوم على المواطنين الروس سيُعتبر أيضاً هجوماً على روسيا. وبذا، رمت موسكو «كرة النار» في ملعب كييف والغرب، لإثبات ما إذا كانا يريدان الذهاب نحو تهدئة الأزمة أم إلى مسارات تصعيدية أخرى، يبدو واضحاً أن الغرب غير مستعدّ لها.