لندن | يتلقّى عدد كبير من البشر معلوماتهم حول الأحداث العالمية من مصادر إعلامية تدور في الفلك الأميركي، ولذلك قد لا يَسهل فهم القوى المعقّدة والمتناقضة التي تؤجّج الأزمة في أوكرانيا. ففي حين يتصاعد تهويل الحكومات الغربية وماكيناتها الدعائية بشأن اجتياح روسي وشيك للجمهورية السوفياتية السابقة، تقول الصحف البريطانية إنه سيكون فاتحة غزو لكلّ أوروبا، على نسق غزو هتلر لبولندا عام 1939، تبدو موسكو مرتاحة استراتيجيّاً، بينما الحكومة الأوكرانية نفسها مشغولةٌ بالحثّ على الهدوء، ودعوة القوى الغربية إلى التوقّف عن نشر الذعر. ومن الجليّ أن المواطنين الأوكرانيين غير معنيّين في غالبيتهم – وفق استطلاعات حديثة للرأي – بأحاديث «الحرب المقبلة» التي تروّج لها واشنطن، ويفضّلون بدلاً من ذلك تصريف قلقهم في اتجاهات أكثر واقعيّة، كالتضخُّم وارتفاع الأسعار والبطالة وفساد النخبة السياسية.والواقع أن الحديث المكثّف والمنسّق عن غزو روسي، ليس سوى استجابة أميركية بائسة بأدوات البروباغندا التقليدية للتغطية على لحظة تحوُّل نوعي في موازين القوى الدولية، وولادة رمزية لنظام عالمي جديد على أنقاض نظام هيمنة القطب الأميركي الوحيد، الذي كان قد وُلد لحظة تفكّك الاتحاد السوفياتي، في عام 1991 واستمرّ لثلاثة عقود. وتعود جذور الأزمة الحالية بشأن أوكرانيا، إلى لحظة الانتصار الغربي السافر تلك. فقد أصابت نخبةَ واشنطن، من وقتها، نشوةُ الظفر، وتسرّب إلى عقولها صلف القوّة، كما استقصدت في عدّة منعطفات تذكير الدولة الروسيّة الجديدة بأنها لن تؤخذ على محمل الجدّ، وأن لا مقعد لها في لعبة السياسة الدولية. بمعنى آخر، ستُرسم حدود العالم القلقة من قِبَل الولايات المتحدة حصراً، وفقاً لشروطها الخاصة وتناسُباً مع معالم قوّتها ومصالح شركاتها، فيما يتولّى الأتباع في الاتحاد الأوروبي والخليج، دعم إرساء هذه الحدود من دون طرح أسئلة.
القيادة الروسيّة الجديدة التي كانت تواجه اضطرابات ما بعد صدمة سقوط الاتحاد السوفياتي، وجدت نفسها في موقف ضعف مرحليّ بالفعل، لكنها لم تتوقّف عن الخشية من إمكان دمج جيران روسيا المباشرين في الحظيرة الغربية، عبر منحهم العضويّة في «حلف شمال الأطلسي»، وبالتالي تهديد الأمن الإقليمي لموسكو في محيطها الحيوي. وقد تعاظمت هذه المخاوف عندما قرّرت إدارة جورج بوش الابن، في عام 2008، تشجيع جورجيا وأوكرانيا على التطلّع إلى عضوية «الناتو». ووصلت التّوترات إلى ذروتها في عام 2014، حيث شهدت كييف ما وُصفت بـ»الثورة الملوّنة» بدعم أميركي، وقرّرت روسيا، التي شعرت بالقلق إزاء تحوُّل أوكرانيا إلى دولة موالية للغرب، إعادة ضمّ شبه جزيرة القرم لأهميّتها الاستراتيجية على البحر الأسود، إثر تجاهُل الأميركيّين كلّ هواجس الأمن الروسي. ومنذ عام 2014، ولمواجهة العُقوبات التي فَرضها الغرب بعد استعادة القرم، سعت روسيا إلى تقوية مَوقفها الداخلي عبر تعزيز اقتصادها المحلّي، وتعظيم قواها العسكريّة والخارجيّة، من خلال إقامة شراكة متعددة المستويات مع الصين. ويبدو أن الكرملين استشعر، الآن، بأن ميزان القوى العالمي قد أصبح كافياً للوقوف في وجه محاولات ضمّ أوكرانيا إلى «الناتو». ويهدف نشر القوّات الروسية، على نطاق واسع على الحدود الأوكرانية، إلى إجبار الولايات المتحدة على الاعتراف، أخيراً، بالمصالح الأمنية لروسيا وإعادة صياغة الأمن في أوروبا - وخصوصاً في شرقها - مع أخذ المصالح الروسيّة في الاعتبار، وبالتالي قلب صفحة النظام الذي كانت فيه إدارة الولايات المتحدة تتولّى ذلك وحدها. والرسالة واضحة: إذا لم تتمكّن موسكو من تحقيق غايات أمنها القومي بالوسائل الدبلوماسية، فهي ستضطرّ إلى توظيف أساليب أخرى، بما فيها العمل العسكري المباشر.
وعلى الأرجح، فإن موسكو ليست في وارد التراجع، الآن، عن موقفها الصلب، لإدراكها بأن الولايات المتحدة مهما هوّلت وحرّكت جنودها عبر البرّ الأوروبيّ نحو الشرق، إلّا أنها لن تخوض حرباً مع قوّة نووية من أجل أوكرانيا. وهذا الأمر كان قد عبّر عنه باراك أوباما، في عام 2016، ولا شكّ في أن إدارة بايدن لديها الموقف ذاته، ولكنها ترفض الإقرار بالتحوّل في ميزان القوى، وتستمرّ في رفع التوقّعات الأوكرانية بشأن عضوية «حلف شمال الأطلسي»، وإنكار الهواجس الأمنيّة الروسيّة. ولعلّ جزءاً كبيراً من سياسة الإنكار الأميركية هذه، ناتج من سياسات النُّخب الغربيّة، التي عملت طوال سنوات وعبر حملات دعائية موجّهة، على تصوير روسيا كدولة مارقة تحاول من دون هوادة إفساد العملية الديموقراطية الأميركيّة، أو التدخّل (المزعوم) في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وذلك بالطبع لأغراض سياسيّة داخليّة محض، ليست لها أيّ علاقة بالواقع الجيوسياسي. ويحاول بوريس جونسون وإيمانويل ماكرون - وكلاهما يواجهان تحديّات داخلية عديدة -، اليوم، ركوب الموجة الأميركية، والمشاركة في لعبة شدّ الحبال مع موسكو، فيما بدا أولاف شولز، المستشار الألماني الجديد، أكثر تحرّراً من الضغوط، باتّخاذه موقفاً حياديّاً لافتاً تجنّب من خلاله استفزاز الجانب الروسي، مصدر إمدادات الطاقة الرئيس لبلاده.
أمّا التالي: فإن المطالب التي طرحتها روسيا على الولايات المتحدة، على مدى الشهر الماضي، مرفقة بحشد عسكري ضخم لأرفع تشكيلات الجيش الروسي، تشكّل في مجموعها أوراقاً تفاوضية قويّة بشأن منع انضمام أوكرانيا إلى «حلف شمال الأطلسي»، فيما يبدو رفض القوى الغربيّة لها غير مستند إلى أيّ أدوات قوّة فاعلة، سوى إغراق أوكرانيا بمزيد من الأسلحة المتطوّرة، التي لن تكون قادرة على تغيير المعادلات القائمة، واستفزاز المناطق شبه المستقلّة في شرقيّ أوكرانيا التي تقطنها غالبية من أصل روسي. إلّا أن مواصلة الأميركيين سلوكهم هذا، ستكون مبرّراً لروسيا للاستمرار في تعليق الأمور في أوكرانيا، بينما تحاول استغلال نقاط الضعف الأميركي، عبر الخطوط الحرجة في الشرق الأوسط، أو في أميركا اللاتينيّة ووسط آسيا، وفوق ذلك كلّه تعزيز التحالف بينها وبين الصين، والذي يُفقد الغرب القدرة على فرض عقوبات ذات قيمة على موسكو، وهو تحالف دُفع إليه الطرفان دفعاً، بسبب قصر نظر نخبة واشنطن التي فتحت عداوات مع الجانبين، في وقت واحد، وجعلت من تقاربهما ضرورة لكلّ منهما، على رغم التنافر التاريخي بينهما في مراحل سابقة. والصين، اليوم، هي بالفعل أكبر شريك تجاري لروسيا، وقد أنشأتا معاً نظاماً دولياً بديلاً للمدفوعات يحميهما من المحاولات الغربية لمنع وصول أيّ منهما إلى النظام المصرفي العالمي الذي تديره واشنطن.