لندن | فاجأ حجم الأزمة في كازاخستان الكثيرين، وقارنها البعض بما حدث في سوريا (2011) أو أوكرانيا (2014). لكنّ المقارنة لا تنعقد؛ إذ في سوريا تدحرجت الأزمة لعشر سنوات متلاحقة، ونجحت أميركا في مدّ يديها إلى أجزاء من الدولة، سواءً مباشرة أو من خلال واجهاتها، بينما في أوكرانيا حدث التمرّد ضدّ النظام في ميدان واحد من العاصمة فحسب. أمّا التمرّد العنيف في كازاخستان، فقد بدأ في المناطق الغربية تحت شعار تحرّك مطلبي احتجاجاً على رفع أسعار الغاز، لكنّه سرعان ما انتشر إلى البلاد بأكملها، وشارك فيه ما يزيد عن عشرين ألفاً من المقاتلين المنظَّمين والمدرَّبين تدريباً جيداً، والعازمين على ممارسة أقصى درجات العنف ضدّ القوات الحكومية (جُزّت رؤوس رجال الشرطة الذين أُسروا). كان من الواضح أن الحدث ليس عفوياً، بل عمليّة مخطّطة ومنظّمة تمّ تنفيذها بتنسيق عالٍ، حيث هوجمت جميع محطّات التلفزيون والمطارات في وقت متزامن، بينما أُرسلت حشود موجّهة لإثارة أعمال النهب والتخريب في الشوارع. ولوهلة، بدا أن المخابرات المركزية الأميركية قد نجحت نجاحاً باهراً، فيما تساءل آخرون عن كفاءة أجهزة الاستخبارات الكازاخستانية والروسية، وسارعت الصحافة الغربية إلى الاحتفال بضعْف فلاديمير بوتين في مواجهة الاختراقات الأميركية لمناطق نفوذه. ثمّ جاءت أنباء طلب الرئيس الكازاخستاني، قاسم توكاييف، تدخُّل «منظّمة معاهدة الأمن الجماعي» - التي كان الاعتقاد إلى وقت قريب بأنها تجمّع شكلي ومترهّل لجمهوريّات الاتحاد السوفياتي السابق -. وخلال ساعات، أقامت روسيا جسراً جوّياً لنقل 3000 من قوات النخبة إلى كازاخستان، بما في ذلك وحدات من «القوة 45» من لواء القوات الخاصة، و«الفرقة 98» المحمولة جوّاً، و«لواء الصاعقة» المحمول جوّاً. كما نقلت طائرات عسكرية روسية وحدات صغيرة من القوات الخاصة الأرمينية والقرغيزية والطاجيكية، إضافة إلى قوّة (500 رجل) من «لواء الحرس المنفصل 103» المحمول جوّاً البيلاروسي (هو امتداد لواحدة من أفضل الفرق السوفياتية المحمولة جوّاً). وأظهرت السرعة التي أُرسلت بها هذه القوات وتشكيلها، أن تلك ليست بردّة فعل، بقدْر ما هي تحرّك روسيّ أُعدّ له سلفاً منذ بعض الوقت.
من المؤكّد أن بكين، لولا تدخّل موسكو، لما سمحت لأيّ طرف بالسيطرة على كازاخستان


ولكن إذا كان الأمر كذلك بالفعل، فلِمَ سمحت موسكو إذاً بحدوث التمرّد؟ لقد اتّبع الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، السياسة الخارجية الرمادية نفسها التي اتّبعها الرئيس الكازاخستاني توكاييف: الحصول على المساعدات والأموال من روسيا، مع قمع الموالين للأخيرة داخلياً، وفي الآن نفسه فتْح الأبواب للقوى الغربيّة للتسرّب إلى البلاد عبر منظّمات المجتمع المدني وبرامج التعاون العسكري المشترك، وبذل الجهد لاستجلاب الاستثمارات من أوروبا والولايات المتّحدة. لكن عندما حانت لحظة الإطاحة بلوكاشينكو، وجد الأخير أن ليس لديه من خيار آخر على الإطلاق سوى اللجوء إلى روسيا طلباً للمساعدة. ولا شكّ في أن موسكو كانت ملتزمة بإفشال محاولات الاختراق الأميركية لمجالها الحيوي، لكنها قامت بذلك فقط بعد أن تخلّى لوكاشينكو كلّياً عن سلوكه الرمادي، لتبدأ خطوات فعلية نحو تقارب وثيق بين البلدَين. استراتيجياً، كازاخستان ربّما تكون أكثر خطورة على الأمن القومي الروسي من بيلاروسيا، إذ تمتدّ حدود غير محصنّة بينهما لـ7600 كيلومتر، ناهيك عن التوتّرات العرقية بين الكازاخستانيين والأقلّية الروسية، وتاريخ طويل من العلاقات الأمنية العميقة مع موسكو. ولذا، كان المؤكد أن بوتين لن يسمح بأيّ حال بسقوط كازاخستان، ولكنه كان ينتظر لحظة تيقّن توكاييف من أن مصيره يعتمد على روسيا، تماماً كما في السيناريو البيلاروسي، وقَبله السيناريو الأرميني أيضاً.
في حسابات الربح والخسارة، فإن لعبة كازاخستان انتهت إلى انتصار تامّ لروسيا، التي أوصلت رسالة إلى جميع مَن يعنيهم الأمر بأن أيّ عبث في محيطها الحيوي سيكون ثمنه باهظاً، وهي رسالة سوف يتردّد صداها في جميع أنحاء آسيا الوسطى. في الجوار القريب، كانت الصين تراقب الأمور عن كثب، وتُراكم الخبرات، وهي التي تتحضّر منذ بعض الوقت للتعامُل مع محاولات الاختراق الأميركية. ومن المؤكد أن بكين، لولا تدخّل موسكو، لما سمحت لأيّ طرف بالسيطرة على كازاخستان. وإذا كان الصينيّون لم يستعرضوا عضلاتهم العسكريّة هذه المرّة، فإن عضلاتهم الاقتصادية ستدعم الآن الوضع الجديد وتكرّسه. وسيكون طبيعياً أن ينعكس ذلك على شكل تنسيق أوسع بين بكين وموسكو عبر الإقليم.