في الأيام الماضية، برز على الساحة الدولية موضوع الأحداث في كازاخستان، كعنوان ضمن أهمّ الأحداث العالمية المختلفة. بعيداً من مجريات ما حصل، وارتباط هذه الأحداث بالصراع بين روسيا والصين من جهة، وأميركا وأوروبا من جهة أخرى، يمكن التركيز على آثارها على العلاقة الروسية - الصينية، بشكل خاص. بالنسبة لروسيا، أصبحت موازنة العلاقات مع الصين ذات أهمية متزايدة لنخبتها السياسية، في الوقت الذي تملي فيه محاولة تجنّب الاعتماد المفرِط على بكّين، الطريقة التي ستُبنى على أساسها العلاقات بين الدولتين في المرحلة المقبلة. فقد اكتشفت موسكو أنّ "الأخ الأصغر للصين" ليس دوراً ترغب في لعبه، بل بحسب وثيقة الأمن القومي، التي صدرت في 2 تموز 2021، توصَف العلاقة ببكّين بأنّها "شراكة شاملة وتفاعُل استراتيجي". وبناء عليه، ترفض روسيا الانطواء تحت مظلّة الصين، وتسعى لتثبيت العلاقة على أسُس التفاعل المشترك.
ما يحدث في كازاخستان، ستكون آثاره أوسع ممّا يعتقد كثيرون، لأنّ الموضوع بات أكبر من مجرّد محاولة لاستبدال نظام. فمع دخول روسيا عسكرياً، بموجب المادة 4 من "منظّمة معاهدة الأمن الجماعي" - التي تتيح لدول المنظّمة تقديم المساعدة العسكرية في حال وجود عدوان على إحدى دولها، ودعمها للنظام الموجود - تكون قد بعثت برسائل إلى الجميع، مفادها أنّها جاهزة لمساندة حلفائها عند الحاجة، على عكس واشنطن التي دائماً ما تتخلّى عنهم. ومن المهم الإشارة هنا، إلى أنّ هذه المرة الأولى التي تنشر فيها "منظّمة معاهدة الأمن الجماعي" قوّات، منذ تأسيسها عام 1994.
إلّا أنّ ما قامت به روسيا يصبّ، أوّلاً، لصالحها في معركة النفوذ مع الصين في آسيا، وهذا ما يُزعج هذه الأخيرة حالياً. فالصمت الصيني عن الأحداث، في الأيام الأولى، وبعض التصريحات الصادرة، يوم أمس، تُظهر انزعاجاً من التمدّد الروسي. وعلى الرغم من أنّ آخر ما تحتاجه الصين، حالياً، هو توتّرٌ في بلد يشاركها الحدود، إلّا أنّ وجود روسيا هناك ليس بالبديل المحبّب إليها، خصوصاً أنّ كازاخستان تعدّ بلد ترانزيت للنفط والغاز الذاهب نحوها.
على أنّ موسكو تصرّ، أيضاً، على أنّه لا ينبغي لأيّ نظام اقتصادي وطني واحد أن يهيمن على أوراسيا. وهذا ما يظهر على ألسنة سياسييها، وفي وثائق الدولة المختلفة. فمنذ أن استشعرت أنّ بكّين تسعى لاحتكار الاقتصاد الأوراسي، بدأت بتوسيع شراكاتها وإنشاء مجموعات تضمّ دولاً تخدم هدفها، المتمثّل في محاولة منع التفرّد الصيني هناك. وفي السنوات القليلة الماضية، كانت كازاخستان إحدى هذه الدول التي تسعى روسيا لضمّها إلى مشروع احتواء التمدّد الصيني، بسبب موقعها الجغرافي المؤثّر في مجال الاستيراد الصيني للطاقة. ولذلك، ستكون للعسكرة الروسية في كازاخستان عواقب وخيمة على سوق النفط والغاز العالميين، إذا خضع الرئيس الكازاخي، توكاييف، لروسيا بعدما ساعدته.
في سعي بكين لتحويل التجارة والاعتماد على الطاقة، من الاستيراد عبر البحر إلى الاستيراد عبر البر، تُعتبر كازاخستان شريكاً ضرورياً. فعلى مدار العامين الماضيين، كانت روسيا تحاول التأثير في مشترياتها من النفط والغاز من آسيا الوسطى. وهي تحاول القيام بذلك، عن طريق دفع كازاخستان للاتفاق معها على تعرفة موحّدة إقليمية لـ"الاتحاد الاقتصادي الأوراسي" على أسعار النفط والغاز، ممّا يمنحها دور المقرِّر بشأن أسعار النفط والغاز، بين الصين وآسيا الوسطى. الرئيس الكازاخي السابق، نزارباييف، والرئيس الحالي، توكاييف، كانا ضدّ تمكُّن موسكو من تحقيق هدفها سالف الذكر. فبالرغم من أنّ هذا الأمر سيمنح موسكو قوّة تفاوضية هائلة، على صفقات النفط والغاز الخاصّة بها مع الصين، إلّا أنّه سيؤدي إلى تقويض استقلال كازاخستان الاقتصادي، وقدرتها على توقّع أسعار نفطها وغازها مستقبلاً، إلى حدّ ما. فضلاً عن ذلك، تشمُل مناقشات "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي" بشأن التعرفة الموحَّدة على النفط والغاز، تلك العابرة عبر الدول الأعضاء (الترانزيت)، والتي تغطّي، بشكل أساسي، جميع صادرات الطاقة في تركمانستان إلى الصين، حيث العبور عبر كازاخستان هو السبيل الوحيد. فوفقاً لإحصاءات الجمارك الصينية، استوردت الصين، في الفترة الممتدّة بين كانون الثاني وتشرين الثاني 2021، 4.02 مليون طن من الغاز الطبيعي من كازاخستان، وبلغ إجمالي واردات الغاز الطبيعي من روسيا عبر كازاخستان، 10.82 مليون طن، و21.92 مليون طن، من تركمانستان عبر كازاخستان.
ممّا لا شك فيه أنّ التدخُّل السريع لروسيا في كازاخستان، يعكس موقفاً حاسماً رافضاً للفوضى في محيطها الحيوي، ومانعاً أمام أيّ محاولة غربية لتعزيز الوجود الأميركي والأوروبي هناك. فما زالت موسكو تنظر إلى عدم تدخّلها في أحداث أوكرانيا، في عام 2013، والتي أدّت إلى توجّه كييف إلى المعسكر الغربي، على أنّه خطأ استراتيجي كبير كلّفها الكثير. أمّا الصين، فتعرف أنّ الخطوة الروسية لمساندة السلطة الكازاخية لن تمضي بلا مقابل، وهذا ما يقلقها. ليبقى السؤال المركزي ماثلاً: لمن ستكون القيادة، في تحديد قواعد اللعبة عبر أوراسيا؟