استفزاز متعمد وخطر
قد يكون السبب الذي يفسّر عدم إعارة معارضةِ شخصيةٍ كجورج كينان في عام 1998 لتوسيع «الناتو» شرقاً، اهتماماً كافياً، هو النظرة التي كانت سائدة لروسيا آنذاك، ومفادها أنّها دولة تعاني من اختلالات بنيوية داخلية قد تفضي، برأي مفكر كزبيغنيو بريجنسكي مثلاً، في كتابه «رقعة الشطرنج»، إلى تفكّكها. عملية توسيع «الناتو» تمّت على مراحل، فانضمت إليه في عام 1999 تشيكيا والمجر وبولندا، ومن ثم في عام 2004 بلغاريا وإستونيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا، وفي عام 2009 ألبانيا وكرواتيا، وفي عام 2017 مونتينيغرو، وفي عام 2020 مقدونيا الشمالية. كينان، الخبير الحقيقي في شؤون روسيا نتيجة لعمله الطويل كديبلوماسي في هذا البلد، والذي استندت إدارة هاري ترومان، في أواخر الأربعينيات، إلى مقاله الموقّع باسم «السيد إكس» في «فورين أفيرز»، لتُبلور استراتيجية احتواء الاتحاد السوفياتي، رأى في مقابلة مع توماس فريدمان، قبل سنة من المباشرة بتوسيع «الناتو»، أنّ هذا الأمر «سيؤسّس لحرب باردة جديدة. أعتقد أنّ الروس سيردّون تدريجياً بطريقة عدائية ويصيغون سياسات لمواجهة هذا التطوّر. إنّها خطيئة مأساوية. سيستدير الآباء المؤسّسون في قبورهم نتيجة لها. لقد التزمنا بحماية مجموعة من البلدان، رغم عدم امتلاكنا للموارد ولا للنية للقيام بذلك بشكل جدي. توسيع الناتو ناجم أصلاً عن قرار من مجلس شيوخ لا يفقه شيئاً في ميدان السياسة الخارجية».
أعطت المواقف الصادرة عن بايدن وفريقه الانطباع بأنّنا نشهد نقلة نوعية في المواجهة مع بكين
كثيراً ما تُصوَّر سياسات واشنطن الخارجية، على أنها تستند إلى تحليلات عقلانية باردة تغلّب حسابات الربح والخسارة، ويتمّ إغفال دور الاعتبارات السياسية الداخلية والمزايدات بين الحزبين الرئيسين في التأثير فيها ودفعها في وجهة معيّنة، لا تتطابق مع العقلانية المفترضة. العداء الهستيري لروسيا في السياق الدولي الحالي، وكذلك لإيران، ومفاعيلهما على السياسة الخارجية الأميركية، يندرجان في هذا الإطار. ومن نافل القول إنّ الرد الروسي، «التدريجي» كما قال كينان، والذي يتحيّن الفرص لرفع مستوى حدّته، يتجلّى راهناً في التلويح بعملية عسكرية واسعة في أوكرانيا، وتقديم مقترحات لمعاهدتين مع الولايات المتحدة من جهة، ومع «الناتو» من جهة أخرى، تتضمّنان إعادة نظر في الوقائع الجيوسياسية والعسكرية التي استجدّت في أوروبا بعد نهاية الثنائية القطبية.
تخبّط في واشنطن
يتّضح ممّا سبق، أنّ الإجماع بين النُخب الأميركية المعنية بالسياسة الخارجية على أولوية مواجهة الصين، لا يُترجَم توافقاً على السياسات الكفيلة بذلك. وبينما يعتقد البعض أنّ واشنطن لا تستطيع التخفّف من التزاماتها تجاه حلفائها في أوروبا والشرق الأوسط للتركيز حصراً على المعركة مع بكين، يجزم بعضهم الآخر أنّ مقتضيات هذه المعركة تفرض انسحاباً أميركياً من أكثر من منطقة، ستترتّب عليه تداعيات كبيرة بالنسبة للحلفاء، لأنّها لا تملك سوى هذا الخيار. مينكسين بي، أستاذ السياسات الحكومية في كلية كليرمونت ماك كينا، لخّص وجهة نظر المجموعة الثانية في مقال على موقع «بروجيكت سينديكايت»، بعنوان «المفاعيل الأمنية للتركيز الأميركي على الصين»، عندما أشار إلى أنّ «أفعال روسيا وإيران مؤخّراً تظهر بوضوح معضلة أميركا الاستراتيجية. فمن أجل تعظيم قدرتها على الانتصار في حربها الباردة مع الصين، على الولايات المتحدة المحافظة على انضباطها الاستراتيجي، والانسحاب من النزاعات الثانوية التي قد تحرف تركيزها ومواردها عن المجابهة الرئيسية. انسحاب بايدن المفاجئ والمريع من نواحٍ عديدة من أفغانستان في عام 2021، يعكس تصميم إدارته على المضي في هذا الاتجاه… بالإجمال، فإنّ تركيز الولايات المتحدة على الصين سيفقدها بالضرورة قدراً كبيراً من نفوذها الجيوسياسي». يسعى الباحث ذو الأصول الصينية والمناهض لحكومة بلاده، إلى تشجيع الإدارة على عدم الإذعان لضغوط الجهات التي تريد حملها على تعديل «أجندتها الأصلية المعلنة». غير أنّ تلك الجهات ستكثّف من ضغوطها عليها مع إدراكها لضعفها على المستوى الداخلي وللقوة المتصاعدة لمنافسيها الجمهوريين، وهما عاملان قد يحدّان من قدرتها على مقاومتها. التخبّط في سياستها الخارجية يعود جزئياً إلى هذه التجاذبات المتنامية.