نجح نظام آبي أحمد، مرحليّاً، في الخروج من المأزق الذي وضعه فيه الهجوم الأخير لـ«جبهة تحرير التيجراي»، والذي استهدف إسقاط حكومة أديس أبابا. وبالتزامن مع إرساء نوع من التهدئة، المتضمِّنة قبول الجبهة وقف الأعمال العدائية مقابل التزام الحكومة المركزية بمنطقة حظر طيران فوق الإقليم، بدأت إثيوبيا مساعي متجدّدة لاستعادة دورها الإقليمي (المحدود تقليدياً في القرن الأفريقي). وفي هذا السياق، وفي تطوّر هامّ ودالّ، صادق المشرّعون الإثيوبيون، قبل ساعات من نهاية عام 2021، على مشروع قانون لتكوين «مفوّضية الحوار الوطني»، وسط ضغوط دولية متصاعدة لبدء العملية التفاوضية. وتوقّع المشروع «أن يفسح تكوين المفوّضية الطريق أمام إجماع وطني والحفاظ على وحدة البلاد»، على رغم أنه تجاهَل شمول «تحرير التيجراي» و«تحرير الأورومو» في الحوار، وهو ما يتناقض مع ضرورة ضمّ الأطراف المعنيّة كافة، بما فيها المجموعات المسلّحة، بحسب المحلّل الإثيوبي تسيديل ليما، ويؤشّر إلى أن هذا التَوجّه يأتي استجابة للضغوط، وليس تعبيراً عن موقف أصيل لدى النظام. وعلى أيّ حال، يؤسّس إطلاق مسار الحوار، حال جدّيته كما سيتكشّف في الأسابيع المقبلة، لاستقرار الديبلوماسية الإثيوبية في إقليم القرن الأفريقي، بالاعتماد على الوسائل التقليدية نفسها: التدخّل في شؤون دول الجوار الهشّة، وتوظيف المنظّمات الإقليمية مثل جماعة «إيجاد» وأدوات الاتحاد الأفريقي لخدمة الديبلوماسية الإثيوبية (كما في التجربة السودانية بعد سقوط عمر البشير)، ومحاولة استرجاع مكانتها التي تآكلت لصالح كينيا خصوصاً.
الموقف الأميركي
لم تستجب أديس أبابا، منذ نحو عام ونصف عام، لأيّ عروض وساطة على خطّ أزمة «التيجراي» التي اعتبرتها دوماً شأناً داخلياً. وقد كانت كينيا إحدى الدول التي تَقدّمت بتلك العروض، في وقت نمت فيه علاقاتها بالولايات المتحدة على نحو استثنائي. وهو ما أبدت إثيوبيا، مطلع عام 2022، تحفُّظاً عليه، حيث عبّر المتحدّث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي، عن رغبة بلاده في أن تعمل واشنطن مباشرة مع أديس أبابا «بدلاً من التحرّك عبر وكلاء مثل جمهورية كينيا». وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، والرئيس الكيني كينياتا أوهورو، شدّدا (في محادثات هاتفية في 29 كانون الأول الماضي) على ضرورة وقْف الأعمال العدائية، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، في إشارة ضمنية إلى نظام آبي أحمد، الذي تُلاحظ العديد من التحليلات الأميركية انحياز إدارة جو بايدن إلى «تحرير التيجراي» على حسابه. وممّا عزّز تلك التقديرات قيام واشنطن، في الأوّل من كانون الثاني الحالي، برفْع اسم إثيوبيا (ومالي وغينيا)، رسمياً، من قائمة الدول المستفيدة من «قانون الفرص والنموّ الأفريقي» (AGOA، الذي يوفّر للدول الأفريقية استفادة من تفضيلات جمركية).
لم تستجب أديس أبابا، منذ نحو عام ونصف عام، لأيّ عروض وساطة على خطّ أزمة «التيجراي»

ولربّما تفسِّر هذه الخطوة (التي ستؤثّر على نحو مباشر أو غير مباشر على مليون يد عاملة إثيوبية في قطاعات عدّة أهمّها صناعة المنسوجات) على جهود الحكومة الإثيوبية حتى اللحظات الأخيرة للحيلولة دونها، عبر تبنّي مقاربة تهدئة مع إدارة بايدن (كما اتّضح في توقيع أديس أبابا بياناً دولياً مشتركاً بشأن الأوضاع في الصومال في 27 كانون الأول الفائت، على رغم مخالفة البيان سياسات إثيوبيا الفعلية في الصومال، والقائمة على دعم تحرّكات الرئيس محمد عبد الله فرماجو). وعلى رغم أن قرار الإدارة واجه اعتراضاً من اللجنتَين الفرعيتَين المعنيّتَين بأفريقيا في مجلسَي الشيوخ والكونغرس، على خلفية مخاوف من إلحاقه أضراراً بالإثيوبيّين من دون أن «يسهم في وقف العداءات» بحسب بيان أصدره النائبان عن الحزب الديموقراطي كريس فان هولن وكارين باس، وما يراه معنيّون (من بينهم ميسفين تيجينو، رئيس لجنة الشؤون العامة الأميركية الإثيوبية AEPAC) من أن الخطوة تمثّل «طعنة» لأكثر حكومة موالية للغرب، وأنها لن تقود إلّا إلى دعوة الصين إلى إثيوبيا، فإن إدارة بايدن تبدو ماضية في تصعيد ضغوطها على حكومة آبي أحمد.

استراتيجية جديدة
ترى الحكومة الإثيوبية أن نظيرتها الأميركية لا ترى سبيلاً إلى إنهاء الحرب الأهلية في إثيوبيا، سوى بعزْل الأولى تماماً، من دون حساب حدوث فراغ أمني في الإقليم؛ وأن واشنطن تعتمد في سياستها على إثارة القوى الإقليمية ضدّ أديس أبابا، والدفْع بالأطراف المتحاربين نحو أقصى درجات الضرر المتبادل، بدلاً من مساعدتهم في السعي إلى تسوية عادلة. لكن على رغم هذا الخطاب عالي النبرة، يبدو أن نظام آبي أحمد يتحرّك نحو تهدئة داخلية وخارجية، بما يشمل «إصلاح» العلاقات مع الولايات المتحدة، ومساوقة مقرّرات الأمم المتحدة والدول الغربية لتسوية الأزمة السياسية والأمنية في البلاد، فضلاً عن السعي لتَصدُّر المشهد الإقليمي مجدّداً كقوّة نافذة في جميع دول الجوار، ومهيمنة في عدد من الدول الأخرى. وفي هذا السياق تحديداً، يندرج إعلان أديس أبابا، مطلع العام الجاري، استعدادها لمساعدة السودان والصومال في معالجة أزمتَيهما، بعدما جلّت الشهور الأخيرة هشاشة علاقات النظام الإقليمية، وفق ما أظهرته الاتهامات الإثيوبية لعدد كبير من دول الجوار، بما فيها السودان وجنوب السودان (اللتَين كانتا منطقة نفوذ وتأثير إثيوبي واضح ما بين 2019 و2020)، بالتورّط في دعم «جبهة تحرير التيجراي».