تَكتسب أفريقيا جنوب الصحراء أهمّية متزايدة في تفاعلات العلاقات والتنافسات الدولية الجارية، وذلك لعدّة اعتبارات، أبرزها المُقدّرات الاقتصادية الواعدة في القارّة خاصة في قطاعات إنتاج الطاقة، والفُرص البكر والهائلة أمام مُطوِّري البُنى الأساسية، إضافة إلى كوْن المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية ساحة تقليدية لنفوذ القوى الدولية المختلفة. وفي هذا السياق، يَبرز التعاون الفرنسي - الإماراتي في أفريقيا، والذي أنبأت جولة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الخليجية الأخيرة بوجود توجّه إلى تعميقه.
إرهاصات التفاهم
تُمثّل فرنسا أحد أهمّ شركاء الإمارات الدوليين، حيث يستضيف ميناء أبو ظبي قاعدة بحرية فرنسية منذ عام 2009، كما تتمركز قطع جوية فرنسية في قاعدة الظفرة الجوية خارج العاصمة. وفي خلال زيارة ماكرون الأخيرة، حصلت فرنسا على أكبر عقد لتوريد السلاح طوال تاريخها بقيمة 18 بليون دولار (قابلة للزيادة)، مقابل حصول أبو ظبي على طائرات «رافال إف-4»، كأوّل مستخدم خارج فرنسا لهذا الطراز. أيضاً، حضَر ملفّ التعاون في أفريقيا جنوب الصحراء في مناقشات ماكرون في الإمارات، والتي اختُتمت بتوقيع ما لا يقلّ عن 13 اتفاقاً وصفقة. وفي مقابل الحضور الفرنسي التاريخي في القارّة، فإن الإمارات لم تُطبّق سياسة أفريقية محدّدة إلّا قبل نحو 15 عاماً فقط، حيث بادرت دبي إلى تتبُّع الفرص المتوفّرة في القارّة، سعياً لتحقيق مصالحها التجارية. لكنّ «الربيع العربي» قاد أبو ظبي إلى ربْط سياستها الخارجية بالأولويات السياسية والعسكرية، والتي اتّسقت إلى حدّ التطابق مع نظيرتها الفرنسية في أفريقيا. وبينما تَستهدف الإمارات، بحسب جان لو سمعان، المحلّل في «المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية»، أن تتحوّل إلى لاعب رئيس في مجال الوساطة الدبلوماسية الدولية (خاصة في إقليمَي الساحل وشرق أفريقيا)، فإن حضورها لا يحظى دوماً بنظرة إيجابية، خصوصاً أن التنافس الخليجي على ساحات السودان والصومال وليبيا، ترك آثاراً كارثية على استقرار هذه الدول. لكن يلاحَظ في الآونة الأخيرة، تراجُع المطامح العسكرية الإماراتية في القرن الأفريقي على سبيل المثال (ربّما بسبب تَغيّر الأوضاع في اليمن)، ورغبة أبو ظبي في تقوية سمعتها الدبلوماسية (كعضو غير دائم مستقبلاً في مجلس الأمن الدولي) على نحو يغيّر نطاق سياستها الإقليمية، ويستدعي تحالفاً استراتيجياً مع فرنسا، صاحبة الباع الطويل في القارّة.

استراتيجية فرنسا الأفريقية
بعد ستّة أشهر فقط من تولّيه رئاسة بلاده، زار ماكرون «جامعة واجادوجو» في بوركينا فاسو (تشرين الثاني 2017)، وألقى خطاباً بشّر فيه بـ«سياسة فرنسية جديدة تُركّز على الشباب الأفريقي». وبعد هذه الزيارة بأربعة أعوام، استضاف قمة فرنسا - أفريقيا في مدينة مونبيليه (تشرين الثاني 2021)، حيث التقى ممثّلين عن المجتمع المدني الأفريقي، ساعد في تنظيمها المثقّف الكاميروني، أشيل مبيمبي، بعد أن طلبت منه باريس كتابة تقرير حول «العلاقات الفرنسية الأفريقية»، بغرض تحديثها. واعتبر مراقبون آنذاك أن سياسة ماكرون مجرّد تكرار لتجربة فرنسا الشهيرة في خمسينيات القرن الماضي، عبر نشر مجلات مثل «باري-ماتش» و«بينجو»، وتوظيف شخصيات بحجم ليوبولد سنجور في جولة لوزير الشؤون الثقافية الدولية، إدجار فور، منتصف عام 1955، على نيجيريا. كذلك، اعتُبرت قمة مونبيليه نسخة جديدة من فكرة «أفريقيا الفرنسية» (التي صكّها الرئيس السنغالي الأسبق، ليوبولد سنجور)، مع ملاحظة أنه لا توجد أيّ من مستعمرات فرنسا السابقة في أفريقيا جنوب الصحراء، في قائمة أبرز خمسة شركاء تجاريين أفارقة مع فرنسا، وهو الأمر نفسه في ما يتعلّق بالاستثمارات الخارجية المباشرة.
وسعت فرنسا إلى استكشاف سبل جديدة لتوطيد علاقاتها الأفريقية، عبر تغيير استراتيجيتها نحو الدول النامية، وزيادة موازنة مساعداتها، من 10.9 بلايين يورو في عام 2019، إلى 12.8 بليون يورو في عام 2020. وفي آذار 2021، صادق المشرّعون الفرنسيون على مشروع قانون لزيادة موازنة فرنسا من المعونات الخارجية إلى نسبة 0.55% من الناتج المحلي الإجمالي، بدءاً من عام 2022، مع التركيز على أفريقيا جنوب الصحراء وهاييتي، ودمج «وكالة التنمية الفرنسية» (التي تقدّم القروض والمنح) بـ«France Expertise» (الذي يركّز على تطوير المشروعات اللوجيستية)، بما يسمح بـ«تحسين صورة فرنسا في أفريقيا»، وهو ما لم تَثبت نجاعته بعد. وهكذا يبدو أن ماكرون يعيد، على أعتاب الانتخابات الرئاسية الفرنسية ربيع 2022، توظيف خطط الخمسينيات لملاءمتها مع الأوضاع الحالية، وترميم شعبيّة بلاده في أفريقيا، والتي تدنّت إلى مستويات غير مسبوقة، أسهمت في الوصول إليها سياساتُ ماكرون نفسه، والتي وصفها البعض بـ«الاستعمار الجديد».

تحوّلات السياسة الإماراتية
بدأ دور الإمارات يتصاعد في الشأن الأفريقي منذ نحو عقد تقريباً، بالتزامن مع انتهاجها سياسات خارجية صدامية في العديد من الملفّات، منذ مساهمتها في الحملة العسكرية لـ«الناتو» في ليبيا في عام 2011. لكن بات يمكن اليوم رصد تحوّل في تلك السياسات، يوصّفه مراقبون إماراتيون (ابتسام الكتبي مثلاً) بـ«المقاربة المتفائلة» القائمة على «طَيّ صفحة الخلاف الإقليمي»، وإعادة توجيه الأولويات والموارد «نحو شراكات تجارية موسّعة». ولعلّ أفريقيا جنوب الصحراء تُعدّ تجسيداً مثالياً لمجال عمل السياسة الإماراتية الجديدة، حيث تمثّل هذه الدولة واحدة من أهمّ الأسواق الواعدة بالنسبة إلى الإماراتيين. وكانت بلغت تجارة الإمارات مع ستّ دول أفريقية غير عربية (أنغولا وكينيا ونيجيريا وإثيوبيا وجنوب أفريقيا وتنزانيا) أكثر من 8 بلايين دولار في عام 2020. وتُعدّ الإمارات واحدة من كبريات الدول المُصدِّرة للسلع إلى العديد من الدول الأفريقية، كما أنها واحدة من أكبر عشر دول مستوردة من نحو عشر دول أفريقية بما فيها كينيا. ويُقدَّر إجمالي التجارة غير البترولية الإماراتية مع أفريقيا بـ25 بليون دولار، فيما يُتوقّع أن يرتفع هذا الرقم في السنوات المقبلة، في ظلّ تَوجّه السلطات الإماراتية إلى لعب دور أكبر في تكوير العديد من القطاعات الرئيسة في الدول الأفريقية، مِن مِثل السياحة والبنية الأساسية والبترول والغاز والتعدين والطاقة والنقل واللوجيستيات والموانئ وتكنولوجيا المعلومات والهواتف المحمولة.

تعويض الفشل الأمني
بدأت فرنسا، منتصف كانون الأوّل الجاري، إجلاء قوّاتها من قاعدة عسكرية رئيسة في تمبكتو شمالي مالي، بعد نحو ثمانية أعوام من تدخُّل باريس عسكرياً هناك، وفي أعقاب تنامي الغضب الشعبي ضدّها بفعْل غياب الأمن واستمرار الهجمات الإرهابية. ومع تَوقُّع انخفاض إجمالي عديد القوات الفرنسية في الساحل من 5000 جندي في صيف العام الحالي، إلى 3000 جندي في الصيف المقبل (2022)، وتَوقُّع خفْض آخر في العام 2023، وتَغيُّرٍ عملياتي كبير من تأمين المناطق الأرضية إلى التركيز على تقديم دعم جوّي للجنود المحليين، فإنه من المرجّح أن ينتقل التنسيق الإماراتي - الفرنسي إلى مرحلة إعادة ترتيب الأولويات داخل إقليم الساحل وغرب أفريقيا بأكمله، وتبنّي مقاربة «تنموية» مشتركة لتعويض الفشل الأمني.
يبدو أن المصالح الاقتصادية ستَحكم تحرّكات التحالف الفرنسي الإماراتي في أفريقيا


وفيما تعيد فرنسا تنظيم أوراق تدخّلها العسكري والأمني، قطعت الإمارات، في كانون الأول الجاري، أشواطاً في التشبيك الإقليمي في القارّة الأفريقية، حيث وقّعت «شركة موانئ دبي العالمية» مع حكومة جمهورية الكونغو الديموقراطية، اتفاقاً للتعاون في تطوير ميناء بحري عميق في بانانا، على أن تبدأ الأولى عملية التشييد في غضون 12 شهراً. كذلك، تعهّدت الإمارات بدعْم قطاع التعدين في نيجيريا (خاصة في ولاية كادونا الشمالية) باستثمارات مباشرة بقيمة بليونَي دولار، بينما يُتوقَّع أن تستمرّ في خطوات مماثلة، بدعم فرنسا، في عدّة دول أفريقية، بحسب وثيقة صادرة في أيلول 2021؛ إذ ستسحب نحو 150 بليون دولار من استثماراتها الخارجية من «الشركاء القدامى»، وتعيد موضعة نفسها كمنفَذ عالمي للأعمال والتمويل. كما تعمل الإمارات، التي تواجه منافسة إقليمية من السعودية، على التوصّل إلى اتفاقات اقتصادية شاملة مع دول ذات مقدّرات نموّ مرتفعة في أفريقيا وآسيا، من بينها كينيا وإثيوبيا وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وتركيا والهند والكيان الإسرائيلي.

خلاصة
تتشابك مصالح الإمارات وفرنسا في أفريقيا جنوب الصحراء، بشكل بالغ التعقيد وقابل للتصعيد؛ لتطابُق رؤى البلدين في الملفّات ذات الصلة (مواجهة الإرهاب، والنفوذ الاقتصادي، والمقاربات السياسية، وسياسات الهيمنة على أدوار الفاعلين الإقليميين). وبينما تعلن الإمارات إعادة صياغة سياساتها الخارجية في أفريقيا، بالتزامن مع إطلاق تحالف استراتيجي مع فرنسا في القارة، فإن سياسات ماكرون الفرنسية شهدت منتصف الشهر الجاري تراجُعاً (تكتيكياً؟) ملحوظاً عن سياسة الاستعلاء تجاه قادة دول الساحل؛ إذ أعلنت الرئاسة الفرنسية عزم ماكرون التوجّه إلى باماكو لمقابلة نظيره العقيد عاصمي غويتا، بعد شهور من التوتّر الدبلوماسي بين البلدين. ويبدو أن المصالح الاقتصادية ستَحكم تحرّكات التحالف الفرنسي الإماراتي في أفريقيا، في الوقت الذي أطلقت فيه أبو ظبي قدراتها الاقتصادية في عدّة دول أفريقية، وأوردت تقارير نهاية العام الجاري صادرة عن شركة «توتال» والسلطات الموزمبيقية، عزمهما استئناف الاستثمارات الفرنسية في إقليم كابو ديلجاود في موزمبيق، في عام 2022.