يدأب المسؤولون الصينيون على الترويج لكون مشاريع بلادهم في الخارج، مرتكزة على «مبدأ الربح المشترك»، في مقابل الدعاية الغربية التي لا تفتأ تسوّق نَظرية «فخّ الدَّيْن»، القائمة على اتّهام بكين بإغراق الدول المستثمَر فيها بالديون، والاستيلاء في نهاية المطاف على أصولها، على غرار المطارات والمرافئ. وفي هذا السياق، تناقلت وسائل الإعلام الغربية، أواخر تشرين الثاني الماضي، خبراً مفاده بأن «الصين استوْلت على مطار أوغندا الوحيد»، بسبب تخلّف هذه الدولة عن سداد الديون، لكن سرعان ما صدر النفي الرسمي عن السلطات الأوغندية قبل الصينية، إذ أوضح المتحدّث الرسمي باسم «هيئة الطيران المدني الأوغندية»، فياني لوغيا، أنه وفقاً لشروط القرض، هنالك فترة سماح مدّتها 7 سنوات، وهي لا تزال سارية، ولا تُدفع خلالها إلّا الفوائد، مضيفاً أن حكومته لم تتخلّف عن الوفاء بتلك الالتزامات. نموذج سريلانكا
يعود مصطلح «دبلوماسية فخّ الدَّيْن» إلى عام 2017، وتحديداً إلى الفترة التي أعقبت أزمة «مرفأ هامبانتوتا» السريلانكي، عندما أوجده الأكاديمي الهندي، براهاما شالانيه، لوصْف الاستراتيجية التي تنتهجها الصين في البلدان الأفريقية، لتتلقّفه سريعاً الميديا الغربية. لكنّ مسؤولة «مبادرة الأبحاث الصينية - الأفريقية»، ديبورا بروتيغام، من «معهد جونز هوبكينز للأبحاث»، عمدت، بالتعاون مع الأستاذة المتخصّصة بالأبحاث حول منطقة آسيا في «جامعة هارفارد للأعمال»، ميغ ريثماير، إلى تفنيد قضية هذا المرفأ، بالاستناد إلى أكثر من ألف وثيقة، حصلتا عليها وفقاً لـ«قانون حرية المعلومات الأميركي». ونشرت الباحثتان تقريراً مفصّلاً بما خلُصتا إليه في صحيفة «ذي أتلانتك» في شباط الماضي، حيث أكدتا أن الديون الغربية خاصةً، إضافة إلى إدارة الحكومة الفاشلة، دفعتا بسريلانكا في نهاية المطاف إلى خصخصة عدد من أصولها، من بينها «هامبانتوتا». بدأت الحكاية عندما أوكلت الحكومة مهمّة إجراء «دراسة جدوى»، لمعرفة ما إذا كان يجب الانطلاق بمشروع بناء المرفأ الجديد، إلى عدّة شركات غربية، لترسو هذه المهمّة على شركة «رامبول» الدنماركية (لا على شركة صينية). وقد استنتجت الأخيرة، في دراستها، أن المرفأ ذا الموقع المميّز قادر على منافسة مرافق سنغافورة، المُخصّصة لنقل المركبات وتسليم البضائع السائبة، أي الحبوب والمعادن ومواد الطاقة، وغيرها. ومن هنا، وضعت الشركة الخطّة الشاملة للبناء، ثمّ أوكلت إلى «شركة ميناء الصين الهندسية» (CHEC) مهمّة بدء المرحلة الأولى من العملية، بعد نجاحها، بمساعدة من الحكومة السريلانكية، في إقناع «بنك الصين للاستيراد والتصدير» (China EximBank) بتخصيص قرض بقيمة 307 ملايين دولار للمشروع. وفي وقت لاحق، أطلقت سريلانكا المرحلة الثانية، بمساعدة قروض تسهيلية أيضاً من البنك الصيني، بسعر فائدة ثابت، بلغ 2%. وخلال العمل على المرفأ، وعلى الرغم من عدم وجود شركاء تجاريين وخطّة استراتيجية واضحة من الحكومة لاجتذاب مزيد من الحركة، ازدادت حركة المرور في المنشأة بشكل ملحوظ، من 32 سفينة في عام 2012، إلى 335 في عام 2014، إضافة إلى تسليم أكثر من 100 ألف مركبة في العام المذكور أخيراً، وهذا كلّه تماشياً مع توصيات «رامبول».
غير أن بروتيغام تفيد بأن المرفأ بدأ يتكبّد، تحت إدارة «هيئة موانئ سريلانكا» (SPLA) المملوكة من الدولة، خسائر كبيرة، ولا سيما في ظلّ التدهور المتنامي للأوضاع الاقتصادية في البلاد التي أنهكتها الحرب الأهلية الطويلة. وبعد وصول حكومة ائتلافية جديدة إلى السلطة، في عام 2015، كان الدَّيْن الخارجي لسريلانكا، والذي بلغ 46.5 مليار دولار في عام 2016، يثير مخاوف كثيرة حول مستقبل البلاد. ووفقاً لـ«صندوق النقد الدولي»، بلغت قيمة الديون الصينية 4.6 مليارات دولار، أي حوالى 10% فقط من مجمل الديون الخارجية. وقد دفع هذا الوضع بالسلطة الجديدة إلى استجداء «صندوق النقد الدولي» لإعداد خطة إنقاذ لها، كما سعت إلى البحث عن خيارات أخرى للحصول على نقد أجنبي، بهدف تسديد خدمة الديون المستحقّة عام 2016، والبالغة 4.4 مليارات دولار. آنذاك، كانت الحكومة تَنظر إلى مرفأ «هامبانتوتا» على أنه مشروع غير مربح، ولذا فقد عمدت إلى إطلاق عملية خصخصة لحصّة كبيرة منه.
يعود مصطلح «دبلوماسية فخّ الدَّيْن» إلى عام 2017، وتحديداً إلى الفترة التي أعقبت أزمة «مرفأ هامبانتوتا» السريلانكي

وعلى الأثر، قدّمت الشركة الصينية التي تولّت بناء المرفأ، عرضاً يسمح باستمرار تدفّق الإيرادات إلى «هيئة إدارة المرافئ» السريلانكية، وبالتالي استمرار استفادة الهيئة والحكومة منه، بنسبة 65% لمدّة 50 عاماً، مع دفْع مبلغ مسبق بقيمة 750 مليون دولار. أمّا الشركة الصينية الأخرى، وهي «China Merchants Holdings»، فقدّمت عرضاً يقضي بعدم حصول الهيئة على أيّ إيرادات لمدّة 15 سنة، ومن ثمّ الحصول على حصّة 80% لمدّة 99 عاماً، إنّما مع دفع مبلغ مسبق بقيمة 1.12 مليار دولار. اختارت سريلانكا العرض الثاني، على الرغم من أنه أقلّ منفعة بالنسبة إليها على المدى البعيد، بحسب صحيفة «ذا نيو إنديان إكسبرس» (The New Indian Express) الهندية.
تشبّه بروتيغام، في إحدى مقالاتها، ما حصل في سريلانكا بما حصل في اليونان، حينما كانت أثينا ترزح تحت وطأة الإجراءات التقشّفية التي فرضها عليها شركاؤها الأوروبيون. ونظراً إلى تخاذل الأميركيين عن تقديم مساعدة فعلية لها، وجدت في خصخصة أصولها الملاذ الوحيد، وفي الصين المُعين الأنسب، للتخفيف من وطأة الأزمة. وفيما كانت أوروبا مشغولة بالضغط على اليونان، أطلقت الصين عدداً كبيراً من الاستثمارات، متعهّدة بجعل «ميناء بيرايوس» اليوناني «رأس التنين» في «مبادرة الحزام والطريق»، بحسب صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية.

الدعاية لا تكفي
حالياً، ونظراً إلى التأثير المتنامي للصين في دول كثيرة حليفة للغرب، ولا سيما البلدان الأفريقية، حيث شهد دور واشنطن تراجعاً ملموساً، خاصة في عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب، الذي «أهمل القارة إلى حدّ كبير»، بحسب مجلة «فورين أفيرز» (Foreign Affairs) الأميركية، يرى مراقبون، أنه سيتوجب حتماً على الولايات المتحدة، أن تعيد حساباتها في ما يتعلّق بالقارة، وبالتالي، إيجاد استراتيجية أكثر فاعلية واستدامة من مجرّد الحرب الدعائية.