قد يكون رئيس وزراء العدو، نفتالي بينت، أراد، من خلال المواقف الأخيرة التي أطلقها، تقديم صورة عن طبيعة التحدّيات التي تواجه إسرائيل على أكثر من ساحة، وتحديداً في ما يتّصل بالملفّ النووي الإيراني، إلّا أنه، من حيث يدري أو لا يدري، قدّم أيضاً صورة عن نتائج الحرب التي تَشنّها تل أبيب لمنْع تعاظُم محور المقاومة، بمختلف الأساليب السياسية والأمنية والسايبرية والعسكرية، مُمهّداً بذلك للإقرار الصريح بأن الكيان العبري يواجه معادلات استراتيجية وعملياتية غير مسبوقة في تاريخه. وفي هذا الإطار، أكد بينت، من موقعه على رأس الهرم السياسي، أن بلوغ إيران «درجة تخصيب 60% هو أخطر وضع في تاريخنا»، معترفاً بأن الجمهورية الإسلامية أحاطت إسرائيل بما يشبه الطوق الصاروخي، مع ما يعنيه كلامه من اعتراف بفشل استراتيجية «المعركة بين الحروب»، على رغم تحقيقها بعض الإنجازات التكتيكية. ومن هنا، فإن مواقف بينت، لناحيتَي مضمونها وتوقيتها، تتجاوز كونها مجرّد توصيف للواقع؛ إذ إنها تَكشف محدودية الخيارات الإسرائيلية إزاءه، وترسم تساؤلات حول مستقبل الأمن القومي للكيان العبري.يُسجّل لبينت، في هذه المطالعة، أنه لم يلجأ إلى الاستعراض الفارغ، كما لم يبالغ في الحديث عن مفاعيل الضربات التكتيكية الإسرائيلية. إلّا أن ما دفعه إلى ذلك واقعاً، هو أنه لم يَعُد بالإمكان التعمية على خطورة ما آلت إليه إيران نووياً، وعلى حقيقة الطوق الصاروخي، الذي لا يزال في طور الاستكمال كمّاً ونوعاً. كما أن من بين العوامل الكامنة خلف مواقف رئيس الوزراء، هو أن المسؤولية عن الحال التي آلت إليها المكانة الاستراتيجية لإسرائيل، إنّما يتحمّلها سلَفه بنيامين نتنياهو، الذي أمضى في رئاسة الحكومة 12 عاماً متواصلة. وبهذا، لا تستدعي اعترافات بينت أيّ إدانة له، بل تُظهره كَمَن يعمل على إصلاح ما أفسده الآخرون، وهو ما يؤكده قوله: «نحن نريد لهذا أن يتدحرج إلى الوراء... في المقابل علينا منْع إيران من الوصول إلى سلاحٍ نووي إلى الأبد».
ويصاحبَ هذا الإقرارَ الرسمي، ما يشبه الإجماع بين مختلف ألوان الطيف السياسي، على أن فشل إسرائيل في مواجهة «محور المقاومة»، ولّد أمامها تحدّيات واستحقاقات غير مسبوقة منذ عام 1948، بحسب رئيس لجنة الخارجية والأمن في «الكنيست»، رام بن باراك، وهو ما يعني، بشكل أو بآخر، أن استراتيجية «المحور» حَقّقت جزءاً كبيراً من أهدافها، خصوصاً لناحية تعظيم القدرات، والذي تتوالى المؤشّرات إلى أنه بلغ مرحلة مفصلية وحاسمة في التأسيس لقواعد استراتيجية وعملياتية جديدة في المنطقة. وعلى هذه الخلفية، تشهد الساحة السياسية في الكيان العبري تجاذباً في إلقاء المسؤوليات، بين مَن يرميها على الحكومة الجديدة، مُتّهماً إيّاها بأنها ضعيفة في مواقفها وخياراتها إزاء إيران والولايات المتحدة، كما يفعل رئيس المعارضة، نتنياهو، وأنصاره؛ وبين مَن يكبّها على كاهل المسؤولين السابقين، الذين تَشكّل الواقع الاستراتيجي والعملياتي الجديد تحت أنظارهم، أي «قبل شهرين من تشكيل حكومتي»، مثلما قال بينت نفسه، في محاولة للتخفّف من الأعباء. ولعلّ انتقال إسرائيل من مرحلة التنافس على تبنّي الإنجازات، إلى مرحلة تقاذف المسؤوليات، يُعدّ واحداً من أبرز مؤشّرات التردّي الاستراتيجي، والتي عادةً ما تَسِم الكيانات في طوْر انحدارها.