أوضح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مؤتمره الصحافي السنوي الكبير، في الـ 23 من هذا الشهر، خلفية موقف بلاده من الأزمة مع الولايات المتحدة، وحلف «الناتو» في أوكرانيا، عندما أكّد أنه ليس لروسيا «مكان تنسحب إليه بعد حدودها»، متسائلاً: «هل نحن مَن ينشر صواريخه قرب حدود الولايات المتحدة الأميركية؟ بل هي مَن جاءت بصواريخها إلى بيتنا، وأصبحت عند عتبته حالياً. فهل يُعدّ طلب عدم نشر المزيد من المنظومات الهجومية عند حدودنا أمراً مبالغاً فيه؟ هل هناك غرابة في ذلك؟ ماذا سيكون موقف الولايات المتحدة إذا ما نشرنا صواريخنا على الحدود المكسيكية ــــ الأميركية؟». من يراجع التحليلات الأميركية والغربية بشأن حشد القوات الروسية على الحدود مع أوكرانيا، والاتهامات التي تُكال لموسكو باعتماد سياسة حافّة الحرب، سيلحظ قدر استخفاف أصحابها بعقل القيادة الروسية من جهة، وبعقول الناس في أنحاء العالم، من جهة أخرى. لم يكن خافياً على أيّ متابع بالحدّ الأدنى للسياسة الدولية، أن توسيع «الناتو» شرقاً باتجاه حدود روسيا، هو خطّ أحمر لن تقبل به قيادتها بأيّ حال من الأحوال. هي شنّت عمليّتين عسكريّتين، ضدّ جورجيا في عام 2008، وضدّ أوكرانيا في عام 2014، لإفهام مَن يعنيهم الأمر بأنّ مثل هذا التوسيع ممنوع بالنسبة إليها. في مقابل الحزم الروسي، لجأت واشنطن إلى ما يمكن تسميته بتكتيك التسلّل: مراكمة تدريجية لمنظومات أسلحة متطوّرة في أوكرانيا، ونقل خبراء أميركيين إليها لتشغيلها، أي ضمّ أوكرانيا إلى «الناتو» عملياً، من دون الإعلان عن ذلك رسمياً. في الحقيقة، يشي التعامل الأميركي مع موسكو، باقتناع كان سائداً في أوساط الدولة العميقة الأميركية، وهو على الأرجح محطّ مراجعة الآن، مفاده أن روسيا قوة دولية من الدرجة الثانية، من الممكن المضيّ في احتوائها، بالتوازي مع المواجهة التي تُخاض ضدّ الصين. اتّباع الرئيس الروسي لتكتيك التأزيم، انطلاقاً من تقديره لموازين القوى، عبر حشد القوات على الحدود، في مقابل تكتيك التسلّل الأطلسي، جاء ليُظهر لواشنطن وبقية عواصم الغرب، أن روسيا لاعب دولي من الدرجة الأولى، ينبغي أن تؤخذ خطوطه الحمر على محمل الجدّ.
خيارات أميركية محدودة
الإعلان عن اجتماع مرتقب بين مستشارَي الرئيسين الأميركي والروسي، في الـ 12 من شهر كانون الثاني المقبل، للتباحث بشأن الأزمة في أوكرانيا، أدّى إلى انخفاض جزئي في منسوب التوتّر، غير أن مآل هذه المباحثات لا يزال غامضاً. ومنذ هذا الإعلان، ارتفعت أصوات المحلّلين والخبراء الأميركيين والغربيين، المحذّرة من مغبّة الموافقة على المطالب الروسية باعتبارها تنازلات ستمثّل تسويغاً لضمّ دول جوار موسكو قسراً إلى دائرة النفوذ الروسي. بوتين يسعى، وفقاً لهؤلاء، إلى إحياء الاتحاد السوفياتي، وهو إمبراطورية روسية بنظرهم، على أسُس جديدة غير أيديولوجية. وحتى كارين دونفرايد، مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأوروبية والأوراسية، استبقت المباحثات المذكورة بالقول إن العديد من تلك المطالب غير مقبول. إن أتاحت المباحثات تحقيق هدفَي موسكو الرئيسيين، أي الحصول على ضمانات رسمية ومكتوبة بعدم توسيع «الناتو» شرقاً، ونشر منظومات سلاح وصواريخ متطورة في جوار روسيا، ستكون الأخيرة قد أحرزت نصراً كبيراً على استراتيجية الاحتواء والتطويق الأميركية المعتمدة بحقّها، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن، في حال فشل المباحثات، ما هي الخيارات الأميركية والغربية المتاحة إن قامت روسيا باجتياح قسم من أوكرانيا لإفشال تسلّل «الناتو» إليها؟ بكلام آخر، مَن المستعد للموت في سبيل كييف؟ لقد نجح فلاديمير بوتين في استنفار الشعور الوطني الروسي، المستفَزّ أصلاً من سياسات الغرب المعادية لبلاده، والذي يرى أن المعركة الحالية مصيرية. هل تستطيع الحكومات الغربية، وفي مقدّمتها الإدارة الأميركية، إقناع شعوبها بضرورة المشاركة في حرب هي مَن يتحمّل مسؤولية افتعالها؟ الرأي العام الأميركي مثلاً، المنقسم حول جميع القضايا السياسية الداخلية المهمة، ولكن المعارض في سواده الأعظم لأيّ مغامرات عسكرية خارجية لا مبرّرات وجوديه لها بعد تجاربه المريرة مع حروب العقدين الماضيين، ليس مستعداً للموت في سبيل كييف. وكان من اللافت أن المسؤولين الأميركيين سارعوا إلى التلويح بترسانة عقوبات مشدّدة ضدّ موسكو في حال تدخلها عسكرياً في أوكرانيا، ولم يأتوا على ذكر الخيار العسكري، على عكس ما أبدوه من استعداد للدفاع عن تايوان في حال مهاجمتها من قِبَل الصين. إضافة إلى ذلك، فإن السياق الدولي الراهن بذاته، وسمته الرئيسية من منظور واشنطن احتدام المجابهة مع بكين، لا يسمح، في ظلّ القدرات الأميركية المتراجعة، بالشروع بمنازلة عسكرية مع موسكو. أقصى ما تمتلكه واشنطن وحلفاؤها هو سلاح العقوبات والضغوط، المحدود الفعالية أمام التصميم الروسي على كسر الحصار والتطويق.

أوراق بوتين القوية
لا شك في أن بوتين اختار توقيتاً صائباً للتأزيم في أوكرانيا، مع معسكر غربي هشّ بقيادة الولايات المتحدة. ما كان الرئيس الروسي ليتبع مثل هذه السياسة في سياق دولي مختلف. فهو عندما قام بضمّ شبه جزيرة القرم، فعل ذلك انطلاقاً من كونها جزءاً من الأراضي الروسية تاريخياً، ووافق الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف على إهدائها إلى جمهورية أوكرانيا السوفياتية في عام 1954، «تعزيزاً للوحدة بين الروس والأوكرانيين». قُدّمت العملية على أنها استعادة لجزء من أرض الوطن، كإجراء رادع لتآمر السلطات الأوكرانية عليه مع «الناتو». الوضع اليوم مختلف. صحيح أن بوتين كتب مقالاً على موقع الكرملين، في تموز الماضي، تناول فيه «وحدة التاريخ والمصير بين شعوب روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا»، غير أنه أفصح عن مثل هذا الاعتقاد، القديم بالضرورة، في توقيت رآه مناسباً. فُسّر المقال المذكور عند نشره على أنه تلويح بغزو لأوكرانيا إن اضطرّت روسيا إليه. تصاعُد حدّة التناقض بين الولايات المتحدة والصين، وارتقاء مستوى العلاقات بين روسيا والأخيرة إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية والتنسيق الوثيق في مقابل واشنطن، كما ظهر خلال القمة الافتراضية بين فلاديمير بوتين وشي جين بينغ، هي من بين أبرز العوامل المعزِّزة للموقف الروسي. وقد أشار ميكايل بوسيوركي، الناطق الرسمي الأسبق لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، في مقال على موقع «سي.إن.إن»، إلى أن روسيا والصين باشرتا، خلال الأسبوع الحالي، بناء شبكة تجارية مشتركة لا تعتمد على النظام المصرفي الدولي ولا تتعامل بالدولار. وكان الصندوق الوطني السيادي الروسي قد أعلن، في حزيران الماضي، أنّه «يتخلّص من موجوداته بالدولار، وهي بقيمة 40 مليار دولار، ويستبدلها بموجودات باليورو واليوان والذهب، وذلك ردّاً على التهديدات الأميركية بالعقوبات». وللصندوق المشار إليه موجودات توازي قيمتها الإجمالية 186 مليار دولار. يمتلك بوتين ورقة أخرى بغاية الأهمية، وهي أن أوروبا تستورد أكثر من 40% من غازها الطبيعي من روسيا، وأن بقدرته وقف إمدادها به، إن فرضت عقوبات مشدّدة على بلاده، ما سيرتّب أكلافاً اقتصادية وسياسية وبشرية باهظة على الحكومات الأوروبية. نقطة أخرى ينبغي التنبّه إليها، وهي أن الأوروبيين ليسوا مدعوّين إلى اجتماع المستشارين الروس والأميركيين، على الرغم من أن لنتائجه مفاعيل حاسمة سلباً أو إيجاباً بالنسبة إليهم. حساب الأرباح والخسائر من المفترض أن يفضي إلى مقاربة أميركية تسووية تجاه موسكو، تَقبل بتحييد أوكرانيا، وتُبعد شبح الحرب، لكن، استناداً إلى التجارب السابقة، لا بدّ من انتظار نتائج المباحثات لتحديد وجهة التطورات.