الخداع سمة رئيسة من سمات السياسة الأميركية حيال روسيا. للتأكّد من ذلك، تكفي مراجعة التعهّدات الأميركية المتكرّرة، قبل سقوط الاتحاد السوفياتي وبعده، بعدم السعي لتوسيع حلف «الناتو» شرقاً. يشير الرئيس السوفياتي الأخير، ميخائيل غورباتشوف، إلى أنّ القادة الأميركيين والغربيين التزموا أمامه، خلال المحادثات بينهم لإعادة توحيد ألمانيا، بعدم القيام بمثل هذا الأمر. التزامات مشابهة قُدّمت للرئيس الروسي الأسبق، بوريس يلتسين، من قبل إدارة بيل كلينتون، في بداية التسعينيات. بقية القصة باتت معروفة للقاصي والداني. تم ضم جميع دول شرق أوروبا، وأيضاً دول البلطيق، للحلف، ولم تتوقّف محاولات إدخال جورجيا وأوكرانيا إليه، وخصوصاً خلال قمته التي عُقدت في بوخارست، في عام 2008، ولم تُكلّل بالنجاح بسبب معارضة ألمانيا وفرنسا. ليس من المبالغة القول بأنّ رفض وصول «الناتو» إلى حدود روسيا، هو محطّ إجماع بين مجمل قطاعات النخبة السياسية، وبالطبع العسكرية، الروسية، بما فيها تلك التي راهنت على إمكانية الانضمام إلى المعسكر الغربي، ولو من موقع أدنى، والتي مثّلها يلتسين. فالأخير بنفسه اعتبر، في عام 1995، خلال احتدام الحرب اليوغوسلافية، أنّ مصيراً مشابهاً ينتظر روسيا في حال وصول «الناتو» إلى حدودها.أكد الإصرار الأميركي على توسيع الحلف وصولاً إلى تلك الحدود، ونشر بطاريات الصواريخ المضادّة للصواريخ في جوارها الأوروبي، ديمومة استراتيجية الاحتواء والتطويق التي اتُّبعت ضدّ الاتحاد السوفياتي، ولكن في مواجهة روسيا هذه المرة، بغية إضعافها وزعزعة استقرارها، والدفع ربما إلى تقسيمها، عبر استغلال التناقضات القومية والدينية فيها. بضعة أشهر بعد قمة بوخارست المشار إليها، تدخّلت روسيا عسكرياً في النزاع بين أوسيتيا وجورجيا لتوجيه ضربة قوية للأخيرة بهدف إفهام الجناح الموالي للغرب في نخبتها، وللأميركيين، بأنّ انضمامها إلى «الناتو» خط أحمر بالنسبة إلى موسكو. وكذلك بالنسبة إلى أوكرانيا، فإنّ معارضة روسيا لإدخالها إلى الحلف هي التي تفسّر ضمّها للقرم ودعمها لسيطرة المجموعات الموالية لها على شرق هذا البلد، في عام 2014. ما نشهده حالياً من احتدام متجدّد للأزمة الروسية ــــ الأوكرانية يعود أساساً إلى استمرار واشنطن، وحلفائها في كييف، في سياسة الخداع تجاه موسكو، والقائمة على تحويل أوكرانيا عملياً إلى عضو في الحلف، من دون ضمّها رسمياً إليه. يتمّ ذلك عبر تزويدها بصواريخ نوعية مضادّة للدبابات من طراز «جافلوت» الأميركية، والعمل على تجهيزها بأنظمة دفاع جوي تمثّل «قبة حديدية» يشغّلها ضباط أميركيون، إضافة إلى مناورات عسكرية مشتركة بين قواتها وقوات حلف «الناتو»، في حزيران الماضي، بمشاركة عشرات السفن الحربية والطائرات، رغم معارضة روسيا لها. تتعالى اليوم نبرة التحذيرات الغربية من احتمال اجتياح روسي وشيك لأوكرانيا، نتيجة حشد موسكو قواتها على الحدود، وتتجاهل عمداً الاقتراحات الروسية لحلّ الأزمة عبر تحييد كييف وفقاً للنموذج الفنلندي الذي ساد خلال حقبة الحرب الباردة.
القيادة الروسية وكذلك الصينية تعتبر أنها في حالة حرب مع الولايات المتحدة


القيادة الروسية، وكذلك الصينية منذ وصول شي جين بينغ إلى السلطة، تعتبر أنها في حالة حرب مع الولايات المتحدة، بمعزل عن صوابية مقارنتها بالحرب الباردة. الصدام العسكري المباشر هو المستوى الأعلى من الحرب. لكن انتشار قوات عسكرية أميركية وغربية مجهّزة بمنظومات سلاح نوعية في جوار روسيا ضمن استراتيجية احتوائها، وإطلاق سباق تسلّح معها، إضافة إلى العمليات الأمنية والهجمات السيبرانية، والحملات الإعلامية ــــ الأيديولوجية المعادية لها، تشكل بمجملها عند تضافرها ما يمكننا تسميته بحالة حرب. المستغرب هو اعتماد مثل هذه السياسة التصعيدية ضد روسيا، بالتوازي مع تصعيد كبير ضد الصين. فيودور لوكيانوف، الخبير الاستراتيجي الروسي الذي يرأس موقع «رشا إن غلوبال أفيرز»، رأى في مقال بعنوان «خطأ الناتو هو اعتقاده أنه يتعامل مع روسيا التسعينيات الضعيفة»، أنّ فرضية اختيار أيّة دولة لتحالفاتها بحُرية، والتي بدت بديهية خلال التسعينيات، لم تعد كذلك اليوم. لم تكن روسيا آنذاك تمتلك القدرة على صد توسع «الناتو» باتجاه حدودها، غير أنها أصبحت قادرة على هذا اليوم، بحسب لوكيانوف. هو يجزم بأن «توسيع الناتو قد أنتج سياقاً سياسياً وعسكرياً جديداً. إذا بقيت الأوضاع على ما هي عليه، قد تندلع نزاعات جديدة … على روسيا تغيير قواعد اللعبة وفرض خطوط حمر. نستطيع، على سبيل المثال، إعادة تعريف النموذج الفنلندي الذي كان سائداً أيام الحرب الباردة، أي احتفاظ أي دولة بسيادتها مع وقوفها خارج الصراعات الجيوسياسية على أنه خيار إيجابي. كان هذا النموذج قد اكتسب معنى سلبياً في الماضي، لكن كلّ شيء قابل للتغيير». ما تريده موسكو في الواقع هو تحييد أوكرانيا، والتزام رسمي من «الناتو» بذلك، وليس مجرد وعود شفهية كالتي قدّمت في بداية التسعينيات. وتدرك القيادة الروسية أنّ لديها أوراق قوة عديدة في مواجهتها الراهنة مع واشنطن، ومن بينها الانقسام في الموقف داخل «الناتو» حيال مسألة ضمّ أوكرانيا. ففرنسا وألمانيا تعارضان، حتى الآن، هذا الضم، وربما يهدف التهويل الأميركي باحتمال اجتياح روسيا لأوكرانيا، إلى حملهما على تغيير موقفهما. الواضح هو أنّ الظروف الدولية الحالية، التي تزداد فيها حدّة المجابهة بين الولايات المتحدة والصين، وهو ما لم يكن قائماً عندما ضمّت روسيا القرم في عام 2014، ستحفّز بوتين على حزم أكبر مع الأولى، دفاعاً عن مطلب غير مغالٍ، وهو التزام أوكرانيا الحياد.