لندن | رسمياً، بعد 16 عاماً من حُكم أنجيلا ميركل، أصبح لألمانيا مستشار جديد: أولاف شولز. وفي انعقاد خاص للبوندستاغ (البرلمان)، صباح أول من أمس، تابعته المستشارة المغادِرة من شرفة الزوّار، حصل شولز على ثقة غالبيّة مريحة بـ395 صوتاً من مجموع 736، وإن كان أقلّ من مجموع تمثيل أحزاب الائتلاف الثلاثة التي تشكّل الحكومة الجديدة، والتي فازت بـ416 في الانتخابات العامّة الأخيرة التي أجريت في أيلول الماضي. ويبدو أن عدداً من هؤلاء تغيّبوا عن الجلسة بداعي المرض. شولز، بعد إعلان النتيجة وموجة طويلة من التصفيق وباقات الورد - وحتّى سلّة من التفاح - والتقاط الصور التذكاريّة، توجّه إلى قلعة "بلفيو" التاريخيّة، حيث سمّاه الرئيس فرانك فالتر شتاينماير رسمياً مستشاراً للدولة، ومن ثمّ عاد إلى مقرّ البرلمان لأداء اليمين الدستوريّة - من دون أن يقول "فليساعدني الله" في ختامها، على عكس ما كانت تفعل ميركل التي تنتمي إلى حزب مسيحي -، قبل أن يصطحب أعضاء حكومته الـ16 إلى "بلفيو" مجدداً، حيث سلّمهم شتاينماير حقائبهم رسمياً. لاحقاً، أدّى الوزراء الجدد اليمين الدستوريّة أمام البرلمان، فيما توجّه شولز إلى مقرّ المستشاريّة لحضور مراسم حفل نقل السلطة من ميركل إليه، توازياً مع مراسم تسليم مماثلة في مقرّات مختلف الوزارات. وهنّأ الرئيس الألماني، شولز وفريقه، على ثقة الشعب الألماني، لكنّه نبّههم إلى ضرورة الحفاظ على وحدة البلاد التي تواجه استقطابات اجتماعيّة، وأخذ مصالح جيرانها في الاعتبار. وقال إن "ألمانيا ليست جزيرة، بل نحن في قلب أوروبا". كذلك، تطرّق إلى وباء "كوفيد - 19"، فأكّد أن الوضع في ألمانيا "خطير للغاية"، معرباً عن ثقته في أن الحكومة الجديدة "ستولي الجائحة ما تستحقّه من الاهتمام والمسؤولية". خارجياً، كان من أوائل المرحّبين بالمستشار الجديد، الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي ذكّر شولز بلقائهما المرتقب في باريس، في وقت لاحق من هذا الأسبوع. وغرّد ماكرون على موقع "تويتر"، قائلاً إن "الزعيمين سيكتبان الفصل التالي معاً: للفرنسيين وللألمان، وللأوروبيين جميعاً". وكما باريس، رحّبت بروكسل، حيث مقرّ الاتحاد الأوروبي، بالمستشار الجديد. وكذلك فعل كارل نيهامر، مستشار النمسا - الجديد بدوره - والعديد من القادة الأوروبيين. لكن اللافت كانت التهنئة الحارّة التي بعث بها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى شولز، بعد وقت قصير من تعيينه رسمياً، مشيداً فيها بالشراكة الاستراتيجيّة بين البلدين، ومعرباً عن اهتمام بلاده الحثيث بتنمية العلاقات الصينية - الألمانية، وتعميق الثقة السياسية، وتوسيع التبادلات والتعاون في مختلف المجالات، علماً أن الصين تُعدّ ثاني أكبر شريك تجاري لألمانيا. وكان شولز، في موجز قدّمه عشيّة جلسة "البوندستاغ"، حدّد بعض المعالم الأساسيّة لسياسة حكومته في القضايا الخارجيّة، متجنّباً توجيه أيّ انتقاد للصين، وذلك على رغم الحملة الأميركيّة المتصاعدة ضد العملاق الآسيوي.
سيقع شولز تحت ضغوط الدور القيادي المتوقّع من ألمانيا في إطار الاتحاد الأوروبي


ومع هذا، ليس كلّ من في برلين سعيداً بتولّي شولز المنصب. إذ قفز عدد من ناشطي المناخ في الماء الباردة لنهر مقابل "البوندستاغ"، أثناء التصويت على منح الثقة للحكومة الجديدة، وذلك احتجاجاً على عدم جدّية الإجراءات التي وعد بها الائتلاف الحاكم للتعامل مع أزمة المناخ العالميّة. كما امتنع نوّاب حزب يميني متطرّف عن تهنئته، لحظة إعلان نيله الثقة، وغادروا قاعة البرلمان. واعتبر قادتهم، في تصريحات صحافيّة، أن ميركل كانت سيئة من دون شك، "لكننا مقبلون على الأسوأ". وأيّاً يكن، فإن الحكومة الجديدة لا تملك ترف الوقت للاحتفال أو الدخول في جدالات بين أطراف الائتلاف الحاكم، بالنظر إلى أن ألمانيا تواجه عدّة استحقاقات وتحديّات عاتية، تحتاج إلى إجراءات عاجلة.
ويأتي على رأس هذه الأولويّات، الموجة الرابعة من جائحة "كوفيد - 19"، حيث يبدو عدد الإصابات بالفيروس في ارتفاع متسارع، والمستشفيات على وشك الوصول إلى حدود استيعابها القصوى، فيما لا تزال ألمانيا دون جيرانها (مثل إسبانيا والدنمارك وبلجيكا) في معدّلات التلقيح. كذلك، يبدو أن الاقتصاد ليس على ما يرام، بعدما أظهرت بيانات صدرت، قبل يومين من تولي شولز المنصب، انخفاضاً حادّاً في طلبات المصانع، أسوأ ممّا توقّعه المحلّلون. وتعاني الصناعة من نقص في المواد الخام وبعض المدخلات الأساسيّة مثل الرقائق الدقيقة، ممّا أدى إلى اختناقات في التسليم، لا سيّما في صناعة السيارات. وفي الوقت نفسه، بلغ التضخّم 6 في المئة، في الشهر الماضي، وهو أعلى مستوى له منذ أوائل التسعينيّات، الأمر الذي يدفع للتكهّن بأن ألمانيا قد تستغرق وقتاً أطول للعودة إلى مستويات النمو الاقتصادي قبل الوباء، مقارنة بمنطقة اليورو بشكل عام.
وفي ما يتّصل بتغير المناخ، التزم شولز وائتلافه الحاكم بتبنّي خطط طموحة لمكافحته، من وجوهها زيادة اعتماد البلاد على الطاقة المتجدّدة والتخلّص من طاقة الفحم بحلول عام 2030، والاستبدال التدريجي لسيارات البنزين والديزل بـ15 مليون سيارة كهربائيّة مع نهاية العقد. لكنّ خبراء ونشطاء يشكّكون في جدّية تلك الإجراءات، ويحذّرون من عجز محتمل في إمدادات الطاقة وارتفاع في الأسعار. وسيتعيّن على الحكومة الجديدة أن تقدّم سريعاً خططها لسدّ الفجوات المذكورة وتحقيق الأهداف الخضراء، من دون تعريض الاقتصاد الألماني القائم على التصدير، للخطر. وكان شولز قد وعد، الشهر الماضي، بـ"أكبر تحديث صناعي لألمانيا منذ أكثر من 100 عام"، ويبدو أن حزبه مصمّم على استثمار المليارات في "تخضير" الاقتصاد الألماني وتحديث بنيته التحتية. ولكن "الحزب الديموقراطي الحر" - الشريك الليبرالي في الائتلاف - مصرّ على التزام القواعد المالية الصارمة في البلاد، وخصوصاً السقف الدستوري للاقتراض الجديد. ويتولّى زعيم الحزب، كريستيان ليندنر - المعروف بقوة شكيمته ومواقفه الصريحة -، حقيبة الماليّة في الحكومة الجديدة، ممّا يهدّد بعرقلة طموحات شولز في المجال المشار إليه.
وإلى هذه القضايا الداخليّة، تواجه ألمانيا ضغوطاً هائلة من الجانب الأميركي، للانخراط في الحملة المعادية لموسكو التي تتّهمها واشنطن بالتحضير لغزو أوكرانيا، ودعم بيلاروسيا في جهودها لإثارة أزمة لاجئين على الحدود مع بولندا، رداً على عقوبات أوروبيّة فُرضت على مينسك. ويميل كثيرون في "الحزب الاشتراكي الديموقراطي" إلى التساهل مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على النقيض من "الخضر" الأكثر تشدّداً. ومن المرجّح أن يكون هناك خلاف بشأن ما يجب القيام به بخصوص "نورد ستريم 2"، خط أنابيب الغاز من روسيا عبر بحر البلطيق، والذي يعارضه "الخضر" ولا يريد حزب شولز التراجع عنه. وقد تؤدّي خطوط الصّدع حول الموقف من روسيا، إلى خلافات مبكرة داخل الائتلاف الحاكم، لا سيّما أن آنالينا باربوك (حزب "الخضر")، التي تولّت حقيبة الخارجية معروفة بأنّها أميركية الهوى. ولا شكّ في أن شولز سيكون أيضاً تحت ضغوط الدور القيادي المتوقع من ألمانيا في إطار الاتحاد الأوروبي، الذي يعاني من المترتّبات السلبيّة للجائحة، والاقتصادات الهشّة جنوب القارة، وموجات اللاجئين المتدفّقة من الشرق والجنوب، إضافة إلى الملفّات العالقة مع لندن، بعد إنهاء عضويتها في الاتحاد، والمشاغبات التي تثيرها لفرنسا وإيرلندا بشأن قضايا الحدود وحقوق الصيد البحري والهجرة.