أطلق رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، قبل نحو عام، حرباً شاملة ضدّ حكومة إقليم التجراي، في ظلّ تحوّلات دولية وإقليمية مهمّة، كانت مرتقبة عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جاءت بالرئيس الحالي جو بايدن. فُسّر الأمر وقتها على أنه قراءة خاطئة لمخاوف الإدارة الأميركية الجديدة من التصعيد الإقليمي في قضايا مختلفة أبرزها ملفّ سدّ النهضة، وحسابات مرتبكة قائمة على عدّة تصوّرات ثَبُتت هشاشتها لاحقاً، مِن مِثل الصلة الوطيدة بنظام الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، الذي ناصب «جبهة تحرير التجراي» عداءً تاريخياً طوال أربعة عقود على الأقلّ، وإمكانية تحمّل إثيوبيا - على ضعفها السياسي والاقتصادي - عواقب اضطرابات أمنية يمكن أن تتطوّر إلى «حرب أهلية»، وقدرة النظام الإثيوبي على استغلال مكانة بلاده «التقليدية»، وقدرتها على خلخلة النظام الإقليمي بالكامل في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، والاحتفاظ بشبكة معقّدة ومتناقضة للغاية من العلاقات الدولية مع الصين وفرنسا وتركيا وروسيا، فضلاً عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أهمّ شركاء إثيوبيا في مجالات شتّى، ولا سيما الأمنية والاستراتيجية.
الفرص الضائعة
لم تنقطع رؤية آبي أحمد لدوره «الديني» في حُكم إثيوبيا وتوحيدها وإعادة أمجادها «الإمبراطورية»، أو الاستعمارية في واقع الأمر. وقد حكمت هذه الرؤية إدارته للبلاد، وصولاً إلى تكوين حكومة (مطلع تشرين الأول الفائت) بالغة الضعف وخالية من كفاءات حقيقية، ولا سيما وزارة الخارجية التي هُمّش دورها المؤسّساتي تماماً، واختُزل في ظهور متكرّر ومثير للجدل من جهة الخطاب والرسائل التي ينقلها إلى المتحدّث باسمها دينا مفتي. كما غاب عن الحكومة تمثيل إقليم التيجراي، فيما لم تكتمل العملية الانتخابية في أقاليم ومناطق متفرّقة من البلاد، عانت تهميشاً تاريخياً على خلفيات دينية وإثنية وإقليمية صريحة مِن مِثل الإقليم الصومالي، في ما جلّى تعمّد رئيس الوزراء تفويت فرص التسوية أو التوافق في جميع ملفّاته الداخلية. كذلك، واصل نظام آبي أحمد تجاهل رسائل «الحليف الأميركي» إليه، وتطوّرها إلى حدّ إقرار بايدن أمراً تنفيذياً (17 كانون الأول) يمهّد الطريق لنظام عقوبات شاملة ضدّ الأول، وصولاً في مطلع تشرين الثاني الجاري إلى تعليق استفادة إثيوبيا (إضافة إلى غينيا ومالي اللتين شهدتا انقلابات عسكرية في العام الجاري) من الميزات الاقتصادية النسبية الممنوحة لدول أفريقية بمقتضى «قانون النمو والفرص الأفريقي» (AGOA)، في مؤشّر إلى تراجع مكانة أديس أبابا لدى واشنطن.
إقليمياً، بدت سياسات نظام آبي أحمد متّسقة تماماً مع تصوّراته، في ظلّ تراجع واضح لبقيّة مؤسّسات الدولة الإثيوبية في مناطق نفوذها «التقليدية» مِن مِثل الصومال والسودان، وإغفال لحقيقة تطوّر الأوضاع في الأخير، نحو فقدان المكوّن المدني زمام المبادرة في المرحلة الانتقالية لمصلحة المكوّن العسكري وشبكة حلفائه، مع ما لهذا الأخير من موقف حاسم وغير مسبوق في العلاقات السودانية - الإثيوبية من أيّ وجود إثيوبي داخل أراضيه، فضلاً عن مناطحة مصر في ملفّ سدّ النهضة، والسعي إلى حشد مواقف «غير مفهومة» داخل الاتحاد الأفريقي لمصلحة تسويف حسم الأزمة. كلّ ذلك أنبأ بأن تردّي الأوضاع الداخلية واضطراب سلطة آبي أحمد كانا يدفعانه إلى تبنّي مواقف إقليمية تصادمية، أملاً في تعزيز شرعية النظام والالتفاف على مشكلاته الداخلية الملحّة.
من بين السيناريوات المطروحة التضحية برأس النظام وتراجع القوى الداعمة له عن تزكية سياساته


عزلة النظام
تزايدت، مع مرور عام على «حملة حفظ القانون والنظام» في إقليم التيجراي، وتمكّن قوات الأخير من الاستيلاء على مدينتَي ديسي وكومبولشا الواقعتَين على طريق رئيس إلى العاصمة أديس أبابا، عزلة نظام آبي أحمد الإقليمية والدولية بشكل واضح، فيما لم تُجدِ سياسة احتواء تناقضات القوى الدولية الفاعلة في إقليم القرن الأفريقي، نفعاً في نَجدة النظام. واتّضح هذا الفشل الإثيوبي، مثلاً، في تعليق فرنسا في آب الفائت اتفاق تعاونها العسكري مع أديس أبابا، وتراجع تركيا عن تعميق صلاتها بإثيوبيا في تشرين الأول الماضي، بعد تقارير عن زيارة مرتقبة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، في الشهر نفسه. إزاء ذلك، لجأ آبي أحمد إلى إعلان حالة الطوارئ العامة (2 تشرين الثاني) في أرجاء البلاد، وتبنّي خطاب شعبوي بدعوته مواطنيه إلى حمل السلاح لمواجهة قوات «جبهة تحرير التيجراي» (المتحالفة مع قوات جبهة تحرير الأورومو، والتي حازت معها مكاسب كبيرة بوجه القوات الفيدرالية في الأسابيع الأخيرة)، وحديثه عن مشاركة «جنسيات بيضاء وسوداء من غير الأصول الإثيوبية في الحرب»، إلى جانب «الجماعة الإرهابية» (جبهة تحرير التيجراي).

الخيارات الصعبة
يبدو أنه لم تَعُد أمام نظام آبي أحمد سوى عدّة خيارات صعبة، أبرزها التضحية برأس النظام وتراجع القوى الداعمة له عن تزكية أساليبه ورؤاه الشخصانية في إدارة شؤون إثيوبيا الداخلية والخارجية، والدفع بسيناريو تفعيل الحوار السياسي الوطني الشامل بعد تأجيل متكرّر سبق انتخابات حزيران 2021 وأعقبها، والتوقّف عن رهن هكذا حوار بموقف إقصائي وشروط غير واقعية. والظاهر أن ذلك السيناريو - الذي يُفترض أن يتوازى مع تحييد مواقف القوات الأمهرية العدائية في مناطق متفرّقة من البلاد ووقف الأعمال العسكرية مرحلياً - ربّما يحظى بدعم أبرز «شركاء» إثيوبيا الدوليين، ولا سيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لتفادي انهيار إثيوبي تامّ ستنجم عنه تداعيات خطيرة في الإقليم. وفي هذا الإطار، بدأت تتوارد، بالفعل، تقارير إثيوبية عن بحث آبي أحمد خططاً لخروجه من البلاد إلى «منفى اختياري» (رُجّح أن يكون العاصمة الكينية نيروبي).
الخيار الثاني، يتمثّل في استمرار آبي أحمد على رأس سلطة سياسية متآكلة وتصادمية حتى «النفَس الأخير»، وهو ما لا يقلّ صعوبة عن سابقه، كونه سيؤدي إلى تعميق الأزمة الاقتصادية والسياسية المستحكمة في البلاد، من دون أيّ آفاق حقيقية للخروج منها، وبغياب أيّ ضمانات لتدشين حوار سياسي وطني حقيقي يجنّب إثيوبيا مزيداً من الخسائر. أمّا الخيار الأخير، وإن كان مستبعداً، فيتمثّل في إقدام آبي أحمد على «إعلان سلام» مع كلّ القوى السياسية والعسكرية المناهضة لنظامه، ضمن صيغة «مؤتمر وطني» لإعادة إطلاق «مرحلة انتقالية» شاملة، تتضمّن حدّاً أدنى من الشمول الوطني. لكنّ السيناريو المذكور يواجه احتمال رفض القيادة السياسية المعارِضة في إقليمَي التيجراي والأورومو (على الأقلّ)، أيّ دور سياسي لرئيس الوزراء الحالي مستقبلاً.

ما بعد آبي أحمد؟
حظي آبي أحمد، إثر بروزه في زعامة إثيوبيا، بتلميع إعلامي دولي وإقليمي متسرّع وغير مسبوق منذ سنوات بعيدة. وللمفارقة، فإنه يحظى اليوم بقدْر مماثل من الهجوم على طريقة قيادته لبلاده. وبعد أن وُصفت سياساته في بداية عهده بـ«تصفير المشكلات»، أضحى قرين صورة نمطية قوامها الشعور بالعظمة، المصحوب بالإنكار البالغ، والاحتماء بفكرة «انتقاء إلهي». على أنه، ومهما كان مآل التطوّرات الحالية، فكما تولّى آبي أحمد قيادة البلاد في ظروف قابليّتها كبيرة للانفجار والتشظّي، فإن مرحلة ما بعده ستشهد صعوبات بالغة للغاية في العودة - على الأكثر - إلى ما قبل آذار 2018.