للمرّة الأولى منذ وصوله إلى منصبه، أشار وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، خلال مقابلة مع «سي أن أن»، يوم الأحد الماضي، إلى أن الخيار العسكري هو بين الخيارات البديلة «الموجودة على الطاولة» بالنسبة إلى إدارته، في حال عدم التوصّل إلى اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي. إشارة بلينكن هذه، تزامنت مع إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينت، في مقابلة مع صحيفة «تايمز» البريطانية، أن حكومته تخوض حرباً باردة ضدّ إيران، وأنها ستقوم بكلّ ما يلزم لـ«تحييد» التهديد الذي تمثّله الجمهورية الإسلامية. هذه المواقف التصعيدية أتت بالتوازي مع قيام الجيش الإسرائيلي بمناورات ضخمة، تُحاكي حرباً متعدّدة الجبهات واضطرابات داخلية في المناطق العربية، وتحليق قاذفة استراتيجية أميركية، من طراز B1 Lancer، برفقة مقاتلات إسرائيلية وسعودية وبحرينية ومصرية، في أجواء المنطقة فوق مضيقَي هرمز وباب المندب وقناة السويس، في رسالة «طمأنة» إلى حلفاء واشنطن الإقليميين، وفق متحدّث عسكري أميركي. وقد تكفَّلت فضائيات خليجية حصراً، والتي استضاف بعضها، كقناة «الحدث» مثلاً، أربعة خبراء إسرائيليين في ليلة واحدة، في إشاعة أجواء حرب وشيكة نتيجةً لهذه التطوّرات. لا شكّ، بدايةً، في أن القيادتَيْن الأميركية والصهيونية، تواجهان مأزقاً فعلياً ناجماً عن عدم انصياع إيران لشروطهما المتعلّقة بالاتفاق النووي، أي عودتها إلى الالتزام بموجباته قبل رفع جميع العقوبات الأميركية المفروضة عليها، والموافقة عملياً على ربطه بمفاوضات لاحقة حول برنامجها الصاروخي ودورها الإقليمي. غير أنّ طبيعة المأزق الأميركي مختلفة عن طبيعة ذلك الإسرائيلي، الوجودية بالمعنى الحرفي للكلمة. فالأولويات الاستراتيجية المستجدّة لواشنطن، والمتمحورة حول التصدّي للصعود الصيني قد تدفعها، مرغمةً لا بملء إرادتها، إلى التعايش مع صيرورة إيران دولة - عتبة، في حال فشل المفاوضات معها؛ أمّا الطرف الصهيوني، فسيجد نفسه في بيئة استراتيجية عالية الخطورة، بفعل التحوّل الكبير والمستمر لميزان القوى الإقليمي لمصلحة محور المقاومة، والاتجاه الأميركي المتزايد لـ«التخفُّف» من أعباء الشرق الأوسط.

واشنطن لا تريد الحرب
حديث بلينكن عن وجود خيارات بديلة، وضمنها ذلك العسكري، ضدّ طهران، يندرج في إطار سياسة تهويل تمثّل استمرارية لـ«الضغوط القصوى» التي تضمّنت، إضافة إلى العقوبات، تلويحاً متكرّراً باللجوء إلى القوّة العسكرية. إذا فشلت المفاوضات مع إيران، يحتمل أن نشهد تشديداً للعقوبات، المؤذية بكل تأكيد، وعمليات خاصة هجينة، كتلك التي شُنّت ضدّ منشآت ومرافق إيرانية، لكنّ شروع الولايات المتحدة بضربات واسعة النطاق ضدّ البرنامج النووي الإيراني بهدف تدميره، وهو ما سيفتح الباب أمام حرب كبرى في الإقليم، مستبعد جداً. سيكون مثل هذا الخيار بمثابة انتحار سياسي لإدارة جو بايدن لا أقلّ. فهذه الأخيرة، التي جعلت من التفرّغ لمواجهة الصين هدفاً مركزياً لسياستها الخارجية، ستغرق في مجابهة شاقّة ومرتفعة الكلفة، وعابرة للحدود على نطاق الإقليم، لا مجال لمقارنتها بأيٍّ من تلك التي خاضتها في السابق. على إدارة بايدن أن تنسى، في مثل هذه الحالة، جميع الأهداف الأخرى التي حدّدتها وبنت استراتيجيتها على أساسها، مع تحوُّل الإقليم إلى كتلة من لهب. علاوة على ذلك، فإنها ستقابَل بمعارضة عارمة لحرب كهذه من قِبَل الرأي العام الأميركي، الذي ترفض قطاعات وازنة منه أيّ تورّط جديد في الشرق الأوسط، ومن داخل حزبها الديموقراطي وأطراف معتبَرة في الحزب الجمهوري، التي لن تفوّت فرصة اتهام الديموقراطيين بزجّ البلاد في حرب لا ضرورة لها.
يعتقد خبراء مرموقون أنّ المنطقة تمتلك قدرة جذب استثنائية حيال الولايات المتحدة


لقد أسهب العديد من الخبراء والباحثين الأميركيين في شرح أسباب تراجع النزعة الإمبراطورية الأميركية، وبينهم فرانسيس فوكوياما ونيلز فيرغوسون وجوزيف ناي، ورأوا أن عدم استعداد القسم الأعظم من الأميركيين للموت في حروب بعيدة عن الديار يقف في مقدمة هذه الأسباب. اتخاذ الرئيس الأميركي، الذي يعاني تدنّياً كبيراً في معدّلات شعبيته، بعد 10 أشهر من وصوله إلى السلطة، لقرار كهذا، سيُفضي إلى انهيار حقيقي في هذه المعدلات، مع ما يترتّب على ذلك من تداعيات سياسية وانتخابية بالنسبة إلى الحزب الديموقراطي. النخَب السياسية والعسكرية الأميركية مجمعة على أنّ التحدّي الاستراتيجي الرئيس لبلادها هو القوّة الصينية، وأن قدراتها المتضائلة لا تسمح لها بخوض مغامرات كارثية ومجهولة التبعات كحربٍ مع إيران. وفي حال اضطرّت هذه النخب، ودولتها العميقة، في ضوء اعتباراتها الاستراتيجية المعلَنة، للاختيار بين التعايش مع إيران قوية، باتفاق نووي أو من دونه، وبين مغامرة كارثية، فمِن المرجّح أنها «ستتجرّع السمّ» وترضى بالخيار الأول، وإلّا الانتحار السياسي.

حنق إسرائيلي متأجّج
تضافُر مفاعيل التوجّهات الأميركية الجديدة مع النمو النوعي والكمّي في القدرات العسكرية والصاروخية لمحور المقاومة، يُسهم في صياغة بيئة استراتيجية إقليمية خطيرة جداً بالنسبة إلى الكيان الصهيوني. وجود إجماع استراتيجي في واشنطن على عدم «الانجذاب» مجدّداً إلى رمال الشرق الأوسط يترتّب عليه، على الأغلب، إخفاق المخطّطات الإسرائيلية في استدراجها إلى حرب، من خلال سيناريو متدحرج تبادر وفقه إلى ضربة أولى تستدرج ردّاً إيرانياً، فتهرع الولايات المتحدة إلى نجدتها. يعتقد خبراء مرموقون، وبينهم الوزير اللبناني السابق غسان سلامة، في مقابلته مع «الأخبار» في الأوّل من أيلول الماضي، أن المنطقة تمتلك قدرة جذب استثنائية حيال الولايات المتحدة، وأن إداراتها المتعاقبة التي أرادت التخفُّف من أعبائها لم تنجح بذلك في الماضي. غير أن التحوّلات الاستراتيجية الهائلة في موازين القوى، وما تحمله من مفاعيل بالنسبة إلى الموقع الريادي لواشنطن، قد تساعد الإدارة الحالية على إنجاز مهمّة التخفُّف من هذه الأعباء، على عكس سابقاتها. السؤال الذي يُطرح في مثل هذه الظروف، هو: هل تشرع إسرائيل بضربة كبرى وحدها، ومن دون ضوء أخضر أميركي، في مثل هذا السياق، ومع التطوّر الكبير في عمليات التخصيب الإيرانية؟ الحسابات العقلانية الباردة، على رغم المناورات العسكرية الإسرائيلية الضخمة والتصريحات التهويلية النارية لقادة الكيان، تشجّع على الإجابة بالنفي. قد يظنّ هؤلاء بأن المبادرة إلى الحرب اليوم يحتمل أن تكون أكلافها - الضخمة - أقلّ ارتفاعاً من تلك التي سيتكبّدها الكيان في حال وقوع الحرب في المستقبل. الرهان على تغيير المعادلات الحالية، من خلال مزيج من عمليات «ما دون الحرب» والهجمات السيبرانية، أظهر، بحسب آموس هارئيل، كبير المعلّقين العسكريين في «هآرتس»، أنه كفيل بإلحاق «أضرار موضعية» بالخصوم لا أكثر. وهو اعتبر، في اليومية الصهيونية، أن المواقف الإسرائيلية وعمليات القصف والتخريب، تتمّ بدافع الحنق، لا وفق استراتيجية فعّالة، وأنها أظهرت عجزاً واضحاً عن تغيير الأوضاع في الإقليم. وما يزيد من حنق القادة الصهاينة، خصوصاً العسكريين بينهم، برأي هارئيل، هو «إقرارهم بضعف تأثيرهم في الموقف الأميركي في المفاوضات النووية مع إيران». هل يحمل الحنق هؤلاء للإقدام على خطوة تشعل برميل البارود؟ المشهد الإقليمي بعد الانفجار لن يُطابق حتّى أكثر توقّعاتهم قتامة.