على رغم مُضيّ ما يزيد على ثلاث سنوات على إطلاق كاراكاس معركة استرداد ذهبها المقدّرة قيمته بـ1.2 مليار دولار، إلّا أنها لم تتسلّم، حتى الآن، غراماً واحداً من احتياطيّ سبائكها، الذي بات يُستخدم وسيلة للابتزاز السياسي. إذ لا تزال المملكة المتحدة تُماطل في الردّ على طلبها استعادة 31 طنّاً من الذهب مودعة لدى «بنك إنكلترا»، أرادت فنزويلا استخدامها في معالجة تداعيات الأزمة الوبائية على الاقتصاد الوطني المنهَك أصلاً بفعل العقوبات الأميركية. وعلى رغم رحيل إدارة دونالد ترامب، التي كانت لندن خضعت لضغوط «صقرَيها» مايك بومبيو وجون بولتون، من أجل حجْب الأصول الفنزويلية عن نظام الرئيس نيكولاس مادورو، إلّا أن شيئاً لم يتغيّر في التعامل البريطاني مع هذا الملفّ، حتى في ظلّ تراجُع «جوقة» إسقاط النظام الفنزويلي، وانفضاض الكثير من الأطراف عنها، بل وتخلّيهم عن دعمهم للمعارض خوان غوايدو، وإعادة اعترافهم بشرعيّة حكومة مادورو. وبالعودة إلى تفاصيل القضيّة، فقد كان البنك المركزي الفنزويلي قد طالب، للمرّة الأولى عام 2018، باسترداد ذهب البلاد المودَع في بريطانيا، كجزء من مسعى أشمل استهدف استعادة المدّخرات كافة في الدول الغربية، بعدما فوّضت حكومات تلك الدول، غوايدو، التصرّف بالأموال الفنزويلية الموجودة لديها. وفي أعقاب عدّة جولات حوارية بين لندن وكاراكاس، قرّر المركزي البريطاني الامتناع عن تلبية طلب فنزويلا، ما اضطرّ الأخيرة، مع بدء تفشّي فيروس «كورونا» الذي فاقمت آثاره من حدّة الأزمتَين الاقتصادية والاجتماعية، إلى البحث عن بدائل لمعالجة مشاكلها المستفحلة. ومن هنا، تقدّمت بطلب إلى «البنك الدولي» لاقتراض خمسة ملايين دولار، إلّا أن الجواب جاء سلبياً أيضاً، على رغم دأب المنظّمة، في الفترة المذكورة، على تأكيد التزامها التصدّي السريع والمرن للوباء، خصوصاً في الدول الفقيرة أو المأزومة. ولذا، لم يتبقّ أمام كاراكاس سوى إعادة تفعيل معركة استرجاع ذهبها، عبر قرار بنكها المركزي، قبل عام، رفع قضيّة ضدّ «بنك انكلترا»، إلّا أن استمرار الضغوط المسلّطة على لندن لصالح غوايدو ظلّت تحول دون تسليم الذهب لحكومة مادورو، التي اتّهمها معارضوها بالسعي إلى الاستفادة من العملة الصفراء لدعم بقائها، فيما كانت هي تُرافع عن الوُجهة «الإنسانية» لاستخدام هذه الثروة. وبعدما نجحت الضغوط في دفْع قاضي المحكمة العليا البريطانية، نايجل تير، إلى الحُكم لمصلحة غوايدو الذي كانت حكومة بوريس جونسون سبّاقةً إلى الاعتراف بـ«شرعيّته»، أدّت إحالة القضية إلى محكمة الاستئناف إلى تغيير مسارها، بفعل قرار الأخيرة إبطال قرار تير، وإعادة القضية إلى المحكمة العليا، التي اضطرّت لفتْح تحقيق حول الجهة التي ستتسلّم الذهب، من دون أن تخلُص إلى حُكم حاسم، جرّاء ضبابية موقف الحكومة من الوضع السياسي في فنزويلا.
حافظت لندن، حتى بعد اعترافها بغوايدو «رئيساً انتقالياً»، على علاقاتها الدبلوماسية مع حكومة مادورو


ازدواجية بريطانية
هذه الضبابية كان عبّر عنها وزير الخارجية البريطاني، دومينيك راب، الذي أعلن، أواخر العام الماضي، أنه «لا مجال للاعتراف بغوايدو رئيساً شرعياً لفنزويلا، ولا بمادورو رئيساً فعليّاً»، في ما مثّل رَدّة جزئية عن موقف لندن التي سارعت، مع انطلاق الحملة ضدّ نظام مادورو، إلى الاعتراف بغوايدو رئيساً انتقالياً مطلع 2019، على رغم أنها حافظت على علاقاتها الدبلوماسية مع حكومة مادورو. لكن هذا التحفّظ سرعان ما عاد ليتبدّد منتصف العام الحالي، حيث خرج مسؤولو المملكة المتّحدة ليُجدّدوا اعترافهم بغوايدو، مع أن ميزان القوى انقلب، بوضوح، خلال الأشهر الأخيرة، لغير صالح المعارضة، التي اضطرّت للدخول في مفاوضات مع حكومة مادورو في المكسيك من أجل إيجاد حلّ للأزمة السياسية. وفي هذا الإطار، يعتقد الباحث الأميركي، سيموس كاري، أن وجود مادورو على رأس السلطة هو «الثابت الوحيد في فنزويلا... السفارة البريطانية لا تزال في كاراكاس، وسفير فنزويلا لدى بريطانيا المعيّن من قِبَل حكومة مادورو لا يزال يشغل منصبه». ويقول كاري، في مقالته المنشورة في صحيفة «غارديان» البريطانية في تموز 2020، إن «معاقل عصابة غوايدو بقيت فقط في ميامي وواشنطن، حيث كانت دائماً». ووصف الكاتب الاستيلاء على العديد من الأصول الحكومية الفنزويلية الموجودة في أوروبا والولايات المتحدة، بأنه أشبه بـ«أعمال القرصنة»، معتبراً أن «رضوخ لندن الأعمى لواشنطن بشأن مسألة فنزويلا، هو جزء من نمط يشكّل خيانة مخزية للشعب».
رغم أن فنزويلا ليست وحدها في هذه المعركة؛ إذ إن دولاً عديدة بادرت، خلال السنوات الأخيرة، إلى فتح ملفّ استرداد سبائكها، على رغم ما يتّسم به هذا الملفّ من تعقيد، حتى في حالة دول من «العالم الأوّل» كما ألمانيا، التي قرّرت قبل سنوات إطلاق معركة مع «الاحتياطي الفدرالي الأميركي» (البنك المركزي) لاسترجاع 130 طناً من ذهب برلين مودعة لديه، لتتمكّن بعد محادثات امتدّت لأعوام من استرجاع جزء من ذهبها. لكن ذلك الواقع لم يدفع بالحكومة الفنزويلية إلى اليأس، إذ إنها لا تزال تراهن، بحسب مصادر مقرّبة منها، على أن «تُستكمل المرافعات حتّى اتخاذ القانون مجراه، وتحقيق العدالة للفنزويليين».