مع تسلّم «طالبان» السلطة في أفغانستان، عادت مسألة كيفية صنْع القرار داخل الحركة، إلى الواجهة. فهل ثمّة هيكلية «طالبانية» هرمية الشكل من الأعلى إلى الأسفل، أم هيكلية أفقية تقوم على الشورى؟ وهل أن مجلس القيادة هو الذي يملك سلطة اتّخاذ القرار، أم الزعيم هبة الله أخوند زادة؟ في الدرجة الأولى، تُعدّ «طالبان» حركة عسكرية لها ماضٍ في الحُكم في أفغانستان. ويبدو أن هيكليّتها، من حيث الماهية، مزدوجة: عمودية وأفقية في الوقت نفسه. ففي المحور العمودي، هناك الزعيم، أو «أمير المؤمنين»، على رأس السلطة، فيما يخضع مجلس القيادة لإمرته. ويُعدّ المجلس أرفع مؤسّسة في الحكم، وتضمّ عضويته نحو 26 شخصاً، كما يتمّ في إطاره اتّخاذ جميع القرارات العسكرية والسياسية. ويقوم مجلس القيادة بتعيين «أمير المؤمنين»، الذي يبقى عادة في منصبه إلى أن يفارق الحياة. ويُعدّ مساعدو الزعيم، وهم ثلاثة، جزءاً من هذا المجلس، الذي يقوم، أيضاً، بتوجيه عددٍ من اللجان التي تشبه الوزارات. وفي الوقت ذاته، تشكّل «طالبان»، بصورة أفقية، شبكة مكوّنة من شبكات عدّة، وجبهات متّصلة بزعامة القيادات العسكرية المحلّية. هؤلاء يجب أن يتمّ الاعتراف بهم من جانب مجلس القيادة، في وقت يتمتّعون فيه بمستوى لافت من الحكم الذاتي، ويتحكّمون بمصادر إيراداتهم. كذلك، يمكن للجبهات أن تكون متّصلة بالشبكات الأكبر غير الرسمية، بما فيها «شبكة حقّاني» في الجنوب الشرقي لأفغانستان. ثمّة، أيضاً، اثنتا عشرة لجنة تخصّصية، بما فيها العسكرية والسياسية والاقتصادية والتعليمية، وشؤون السجناء والشهداء والمُعاقين... فعلى سبيل المثال، يُعدّ المكتب السياسي في الدوحة واحداً من اللجان والمكاتب الاثني عشر، التي تعمل تحت إشراف القائد الأعلى لـ«طالبان». وضمن هذا الإطار، تُشرف لجنة الشؤون العسكرية على مجمل سلسلة القيادة العسكرية للمجموعة، وهي تعمل بقيادة الملّا يعقوب، وسراج الدين حقّاني. والملّا يعقوب هو نجل الملّا عمر، ويقوم بوصفه مساعداً، بقيادة العمليات العسكرية في أفغانستان، فيما يُعدّ سراج الدين حقاني، مساعد أخوند زادة في المحافظات الشرقية، ورئيس الشبكة المعروفة بـ«شبكة حقاني». أمّا المساعد السياسي، فهو الملّا عبد الغني برادر، الذي يترأّس لجنة الشؤون السياسية، وقيادة الفريق المفاوِض التابع لـ«طالبان» في الدوحة. وعلى الرغم من أن الحركة استحدثت، على مدى العقدين المنصرمين، هياكل حكومية وإدارية عسكرية متوازية، في سبيل إدارة المنطقة التي تخضع لسيطرتها، توازياً مع عملها على الإبقاء على سلسلة القيادة العمودية تحت راية واحدة، إلّا أن وجوه الحكم الذاتي الأفقي والقادة الميدانيين أوجدوا ضرباً من التباعد. وعليه، فإن التغييرات في السياسات، على مستوى القيادة العليا، قد لا تؤدّي بالضرورة إلى تغيير التوجّهات في ساحات القتال. ومع ذلك، فإن هيكلية القيادة الحالية لـ«طالبان» باتت أقرب إلى حركة سياسية وعسكرية أكثر منهجية، فيما أضحت الأواصر بين مجالس القيادة الاستشارية والقادة والمساعدين الرئيسين، أكثر صلابة وقوة.
باتت هيكلية القيادة الحالية لـ«طالبان» أقرب إلى حركة سياسية وعسكرية أكثر منهجية


ولم تكن «طالبان»، قبل الإطاحة بها عام 2001، تنظيماً منسجماً وموحّداً، بل ضمّت رؤى عديدة ولاعبين عديدين. ولذا، فإن التراتبية بدءاً من القيادة العليا وصولاً إلى القيادات المحلّية، كانت تضطلع أحياناً بدور أساسي في إرساء السياسات في أفغانستان. لكن حرص «طالبان»، ضمن التفضيلات المحلّية المتدرّجة والمتطلّبات العملية، على الحصول على الاعتراف الرسمي الدولي بها، أثّر بشكل متزايد على تحرّكها باتجاه تغيير سياساتها، في ظلّ الوضع الحالي والاستيلاء على كابول. ومع هذا، فإن القيادات المحلية، قد تُغلّب، في الواقع، مصالحها وإيديولوجيّتها وتفضيلاتها المحلّية، وتَعتبرها الأهم.

عبدالغني برادار... وجه «الاعتدال»
يُعدّ الملّا أحمد بوبلزي، الذي يُعرف باسم الملّا عبد الغني برادار، واحداً من الأشخاص الأربعة الذين أسّسوا حركة «طالبان». ولد في عام 1968 في مدينة دهراود في محافظة أرزغان. وفضلاً عن محاربته القوات السوفياتية، فقد كان مقرّباً إلى الملّا عمر في قندهار. وإبان تولّي «طالبان» السلطة، كان مساعداً للملّا عمر ومساعد وزير الدفاع، والرجل الثاني في الحركة، كما له علاقات وروابط أسرية معمّقة معه. بعد سقوط «طالبان»، لجأ الملّا برادار إلى باكستان، حيث أقام في كراتشي. وبعد عام 2003، أصبح المسؤول المالي والعسكري في "طالبان"، فيما أدّت تهم مِن مِثل إقامته علاقات سرّية مع نظام الحكم الأفغاني، والرئيس السابق حامد كرزاي (من القبيلة ذاتها، بوبلزي ودراني)، إلى إلقاء إسلام آباد القبض عليه، في عام 2010. إلا أنه تحت الضغط الأميركي، على الأرجح، أقدمت باكستان بقيادة حزب «تحريك إنصاف»، على إخلاء سبيله، في تشرين الأول 2018. بعدها، توجّه الملّا برادار، في شباط 2019، إلى الدوحة، حيث أصبح رئيساً للمكتب السياسي للحركة. وأدّى ذلك إلى توسيع نطاق المحادثات السرّية مع الولايات المتحدة، بقيادة خليل زاده، والتوصّل إلى «اتفاق الدوحة». ومع تصاعد دور برادار، حاز فعلياً على أبرز وأشهر موقع دبلوماسي وسياسي في الحركة، كما تولّى إجراء مشاورات مع البلدان واللاعبين الآخرين، بمن فيهم روسيا والصين وإيران، وأيضاً الحوار بين الأطراف الأفغانية.
تجربة برادار وتعاونه مع جيلَين من قيادات «طالبان»، إلى جانب تجربة السجن في باكستان، جعلته يصبح أحد الوجوه الأكثر اعتدالاً في الحركة، في مقابل أطياف متطرّفة، بما فيها «شبكة حقاني». كذلك، أدّت الروابط الأُسرية مع عائلة الملّا عمر، والاحترام الكبير الذي تكنّه له المجموعة، إلى أن يساهم برادار في بدء مسار التغيير التكتيكي - الاستراتيجي، والبطيء لـ«طالبان»، وهو ما تَمثّل في التركيز على الحوار والبراغماتية والدبلوماسية، وأولوية المصالح الوطنية، والمزيد من الاهتمام بالأسس الداخلية والخارجية، وخفض منسوب التطرّف الديني والعرقي «البشتوني». وفي الحقيقة، فإن الحضور الحالي لبرادار على رأس الجناح الأكثر اعتدالاً للحركة، والاهتمام بتوسيع السلطة واستقطاب العناصر من غير البشتون، يجعلانه قادراً على الاضطلاع بدور بارز في بناء حكومة ائتلافية (على الأرجح مزيج من الثيوقراطية والأريستقراطية والديمقراطية)، والتشاور مع الأحزاب والتيّارات القوية: الطاجيكية والهزارة والأوزبك لإدارة البلاد التي يسكنها 40 مليون نسمة. وبناءً عليه، قد يلعب برادار الدور الذي يمكن أن يساهم في حماية البلاد من الانزلاق نحو حرب أهلية جديدة، ويعمل على اكتساب الشرعية الخارجية لحركة «طالبان».

* خبیر وباحث في الشؤون
الأفغانية في طهران