لندن | تسود أجواء من القلق والترقّب أروقة الحكومات الأوروبية، بعد مشاهد محاولات الفرار اليائسة لآلاف المواطنين الأفغان من بلادهم، على متن الطائرات الأميركية المغادِرة من مطار كابول. وعلى رغم أن الحليف الأميركي فرض على العواصم الأوروبية استيعاب حصص من آلاف المتعاملين مع قوات الاحتلال في أفغانستان - 20 ألفاً في بريطانيا وحدها -، إلّا أن الجميع يعلم، الآن، أن تركة الإمبراطورية في تلك البلاد ستدفع مئات الآلاف - وربّما الملايين - إلى الهجرة نحو القارّة الأوروبية تحديداً، سعياً لحياة أفضل. ولن يكون هؤلاء، بالضرورة، من المتعاونين مع قوات الاحتلال الأميركي، بل ستشمل صفوفهم مجرمين ولاجئين سابقين أعادتهم دول أوروبا سابقاً إلى بلادهم، ومهاجرين اقتصاديين وفارّين من حُكم «طالبان»، إضافة إلى مهاجرين من بلاد أخرى تعرّضت للغزو الأميركي، كالعراقيين والسوريين، أو أفارقة سيحاولون استغلال حالة التفلّت الأمني الذي ستتسبّب به الموجة الجديدة، للتسرّب نحو دول الشمال الأكثر استقراراً. ويُنقل عن وزير الداخلية الألماني هورست سيهوفر شعوره بالتشاؤم والقلق من الآتي، وتوقّعه أن يحاول خمسة ملايين شخص مغادرة أفغانستان نحو القارّة الأوروبية. وإذا تحقّقت مخاوف الوزير، فإن هذه الموجة الجديدة من اللاجئين ستجعل أزمة الهجرة السابقة، في عام 2015 - عندما شقّ أكثر من مليون شخص غالبيتهم من السوريين طريقهم إلى أوروبا -، وكأنها مجرّد بروفة باهتة بالمقارنة.وكانت ألمانيا مقصداً لـ150 ألف أفغاني خلال السنوات الأخيرة، كما تحوّلت مسألة الهجرة الأفغانية إلى إحدى قضايا الجدل السياسي في أجواء الانتخابات العامّة التي ستُجرى في 26 أيلول المقبل. لكن التوجّه العام لدى التيارات الغالبة يقضي بمنع تكرار أزمة عام 2015، وفي أفضل الظروف استيعاب عدد محدود جداً من طالبي الهجرة الأفغان هذه المرّة. وتعاني دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، غير ألمانيا، من تدفّق اللاجئين الأفغان، الذين قاربت أعدادهم 600 ألف في السنوات الخمس الأخيرة، والذين شكّلوا ثاني أكبر كتلة من طالبي اللجوء بعد السوريين. والأغلبية الساحقة من هؤلاء، شبّان ذكور لا يجيدون اللغات الأوروبية، وقد تورّط الكثير منهم في أعمال عنف وسرقة وتهريب مخدّرات واعتداءات جنسية ضدّ النساء والفتيات الأوروبيّات. وعلى الرغم من استفادة عدد من الاقتصادات الأوروبية من بعضهم، كعمالة رخيصة، إلّا أن تزايد أعدادهم سينعكس سلباً على التوازنات الاجتماعية، ويهدّد بحدوث هزّات وقلاقل أمنية، وتصاعد في الاستقطاب الثقافي بين المجموعات السكّانية المتباينة. وبتوجيهات من الجانب الأميركي، يصل بشكل يومي آلاف المهاجرين الأفغان إلى مطارات في أنحاء أوروبا، بما في ذلك بريطانيا وبلجيكا وكرواتيا والدنمارك وإستونيا وفنلندا والمجر وإيرلندا وليتوانيا ولوكسمبورغ والنرويج وبولندا والبرتغال وصربيا والسويد وغيرها. كذلك، وافق كلّ من إسبانيا وألبانيا ومقدونيا وكوسوفو على الإيواء المؤقّت لمئات الأفغان الذين عملوا مع قوات «حلف شمال الأطلسي»، ويُخشى على حياتهم الآن مع سيطرة حركة «طالبان» على السلطة في كابول.
يبدو أن خلافات ستنشأ داخل الاتحاد الأوروبي بشأن منهجية التعاطي مع «تسونامي» اللاجئين


في هذه الأثناء، يبدو أن خلافات ستنشأ مجدّداً داخل الاتحاد الأوروبي، كما في عام 2015، وذلك في شأن منهجية التعاطي مع هذا «التسونامي» المتوقّع من اللاجئين. إذ سارع العديد من القادة الأوروبيين إلى معارضة توجّهات بروكسل (مقرّ الاتحاد) المعلَنة بشأن «مسؤولية أخلاقية» على الدول الأعضاء تحمُّلها تجاه مَن سمّتهم رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين «الفارّين من حكم طالبان». وأشار بعضهم إلى عدم قدرة بلادهم على استيعاب المزيد من اللاجئين، كما لمّحوا إلى ضرورة أن تقوم الولايات المتحدة والدول الإسلامية بتحمّل العبء، في إشارة ضمنية إلى الدور الأميركي ـــ السعودي في ضرب الاستقرار في أفغانستان، خلال الأعوام الخمسين الماضية. وفي هذا الإطار، جاء الصوت الأعلى من المستشار النمساوي سيباستيان كورتس الذي تعهّد بأن بلاده «لن تقبل بعد الآن المزيد من اللاجئين الأفغان»، لافتاً إلى أن النمسا قدّمت بالفعل «مساهمة كبيرة وبشكل غير متناسب» في استقبال لاجئين أفغان تجاوز عددهم الأربعين ألفاً، خلال السنوات الخمس الأخيرة. ونُقل عنه قوله للصحافيين: «إنني أعارض، وبشدّة، استقبالنا الآن للمزيد من الناس، الذين لا يمكن دمجهم في المجتمع النمساوي»، مؤكّداً أن «هذا لن يحدث مطلقاً في عهدي». وأصدر وزير الداخلية النمساوي كارل نيهامر بياناً مشتركاً مع وزير الخارجية ألكسندر شالنبرغ دعيا فيه إلى «ترحيل الأفغان المقيمين بشكل غير قانوني في النمسا إلى دول إسلامية، بعدما أصبح من المتعذّر ترحيلهم إلى أفغانستان، وفقاً للقيود التي تفرضها علينا الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان». ورأيا أن «التعاطي مع قضية اللاجئين، يجب أن يكون من منظور أمني لا إنساني». إذ إن وقف عمليّات الترحيل سيكون كافياً وحده لجعل أوروبا قطب جذب للهجرة غير المشروعة، وبالتالي الجريمة المنظّمة وما يترتّب عليها من موبقات. وتأتي تلك التصريحات الصارمة من الساسة في فيينا، على خلفية جريمة اغتصاب وقَتل اتُّهم أربعة من اللاجئين الأفغان بارتكابها بحقّ فتاة نمساوية في الـ13 من العمر، وتسبّبت بترويع المجتمع النمساوي بأسره. وبحسب استطلاع للرأي، فإن حوالى 80 في المئة من النمساويين يؤيّدون إجراءات حكومية صارمة في التعامل مع الهجرة الأفغانية.
وفي باريس، دعا الرئيس إيمانويل ماكرون إلى «استجابة أوروبية منسّقة لمنع الهجرة الجماعية من أفغانستان»، بينما أعلن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في بيان أدلى به أمام البرلمان، عن خطّة لاستقبال 20 ألف مهاجر أفغاني من المتعاملين مع قوات «حلف شمال الأطلسي»، لكنه أكد أن حكومته «لن تسمح للناس بالمجيء من أفغانستان إلى بريطانيا بطريقة عشوائية». من جهتها، سارعت الدول الواقعة على بوّابة أوروبا الجنوبية والشرقية إلى التحذير من أنها لن تتسامح مع الهجرة الأفغانية المتوقّعة. وقال وزير الهجرة اليوناني نوتيس ميتاراشي إن بلاده «لن تكون بوّابة للعبور نحو أوروبا من قِبَل المهاجرين الأفغان (غير الشرعيين)». كذلك، حذّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أن موجة جديدة من الهجرة «ستصبح حتمية، إذا فشلت أفغانستان وإيران في تأمين حدودهما»، مؤكّداً «للأصدقاء الأوروبيين أنه ليس على تركيا أيّ مسؤولية أو التزام بأن تكون مستودعاً للاجئين إلى أوروبا». أمّا رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي فقد دعا مجموعة الاقتصادات العشرين الكبرى إلى عقد قمّة للتداول بشأن الوضع في أفغانستان، مطالباً بتولّي دول جوار أفغانستان ـــ روسيا والصين والسعودية وتركيا ودول إسلامية تتمتّع بعلاقات وثيقة بنظام كابول الجديد ـــ مسؤولياتها، وعدم ترك دول «الناتو» تدفع فاتورة الهجرة الأفغانية وحدها. وفيما بنت اليونان بالفعل جداراً يمتدّ لأربعين كيلومتراً على الحدود مع تركيا، لمنع تدفّق اللاجئين الأفغان إليها، تستمرّ أعمال الإنشاء النشطة على حدود تركيا مع إيران، لإنهاء بناء جدار عازل يمتدّ لـ269 كيلومتراً للغرض ذاته.
وتعيد هذه الموجة الجديدة من اللجوء، التذكير بالثمن الباهظ الذي يتعيّن على الدول الأوروبيّة دفعه من أموال مواطنيها واستقرارهم، كلّما تورّطت الإمبراطورية الأميركية في مغامرة غزو جديد. وكانت أوروبا دائماً مقصداً نهائياً لملايين اللبنانيين والعراقيين والسوريين والأفغان الذين تشرّدوا من بلادهم بسبب حروب ونزاعات أدارتها واشنطن في السنوات الخمسين الأخيرة، من دون أن تملك القارة العجوز القدرة ولا الإرادة للتصدّي للسلوك البربري للإدارات الأميركية المتعاقبة.