لم يكن للّقاء الذي جمع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إلى الرئيس الأميركي جو بايدن، منتصف تموز الماضي، وأفضى إلى اتفاقٍ أعطت بموجبه واشنطن، برلين، الضوء الأخضر للمضيّ في مشروع خطّ أنابيب «السّيل الشمالي 2» (Nord Stream2)، ليهدّئ من قلق أوكرانيا حول مكانتها ومستقبلها الاقتصادي. فالمشروع الذي يمتدّ من موسكو إلى برلين عبر بحر البلطيق ـــ متجنّباً المرور عبر أوكرانيا ـــ بطول 1200 كيلومتر، والهادف إلى مضاعفة الطاقة الاستيعابية لنقل الغاز الروسي مباشرة إلى أوروبا على المسار نفسه لخطّ «نورد ستريم 1» الذي بدأ تشغيله في عام 2012، تَعتقد كييف أنّه سيُقصيها نهائيّاً من مشهد نقل الغاز الرّوسي إلى أوروبّا الغربية، في الوقت الذي لا تشعر فيه بالرضى عن مسار علاقتها مع الولايات المتحدة، وهو ما يثقّل «المصيبة» عليها. في خضمّ ذلك، زارت ميركل كييف قبل أيام، في محاولةٍ أخيرة لبعْث الطمأنينة لدى أوكرانيا، قبيل رحيل المستشارة نهائياً عن السلطة مطلع الخريف المقبل. ومن هذا المنطلق، أكدت ميركل للرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، أنّها اتفقت مع بايدن على شروطٍ تضمن حماية كييف وضمان أمنها ومساعدتها اقتصادياً وعدم السماح لروسيا باستخدام المشروع كسلاحٍ جيوسياسي لإضعافها، تحت طائلة فرض عقوبات على موسكو. لكن زيلينسكي لم يَبدُ مكترثاً بتطمينات ضيفته، إذ جدّد وصْف «نورد ستريم 2» بأنّه «سلاح جيوسياسي خطير بيد الكرملين»، «سيُثقل كاهل أوكرانيا». وفي الاتجاه نفسه، اعتبر مستشار مكتب الرئيس الأوكراني، أليكسي أريستوفيتش، أنّ التصريحات المهذّبة لميركل هدفت إلى «تهدئة المزاج فقط»، محذّراً من أنّ «ما يسمّيه الألمان حماية مصالحهم الوطنية، سيكون ثمنه باهظاً بالنسبة لأوكرانيا»، ومن أنّه «يوجد مثل هؤلاء الأشخاص حتّى في محيط جو بايدن».
لعبت الأنابيب الأوكرانية سابقاً دوراً أساسياً في نقل الغاز الروسي إلى أوروبا الغربية

تصويب كييف على واشنطن يأتي بعد أن انصاعت الأخيرة للأمر الواقع الذي يُظهر اكتمال المشروع بنسبة 98%، على رغم محاولتها انتزاع شروط لصالح حلفائها الأوكرانيّين. وهي محاولة لم تكن كفيلةً بإرضاء هؤلاء، الذين لا يملكون اليوم سوى الضغط السياسي والدبلوماسي، الهادف إلى تقليل حجم خسائرهم. ومع أن كييف استطاعت بالفعل استقطاب دعم كبير لها في هذه المعركة، سواءً من الكونغرس الأميركي أو من معظم دول الاتحاد الأوروبي ودول بحر البلطيق التي تعارض المشروع على اعتبار أنه يضع أمن الطاقة الأوروبي بيد روسيا (وهو ما تستغلّه موسكو سياسياً واستراتيجياً، من وجهة نظر تلك الدول، التي دأبت واشنطن، من جهتها، على تغذية مخاوفها لمنْع قيام علاقات روسية ــ أوروبية طبيعية)، إلّا أنّ هذا الدعم بقي في الإطار النظري. ولذا، فلن يكون أمام أوكرانيا، على ما يبدو، إلّا الإقرار بحقيقة هيمنة روسيا على سوق الغاز في القارة الأوروبية، حيث ستصبح الناقل والمصدر الأوحد للغاز، بعدما كانت الأنابيب الأوكرانية جزءاً أساسياً من عملية نقل أكثر من مئة مليار متر مكعّب من الغاز الروسي إلى أوروبا الغربية، لسنواتٍ طويلة. وفي أقلّ من شهر (المدّة المتوقعة لانتهاء أعمال المشروع وفق تقديرات وكالة «بلومبيرغ»)، ستتوقّف هذه الشبكات عن العمل، ليتوقّف معها رفْد اقتصاد البلاد بنحو ملياري دولار سنوياً، الأمر الذي سيفاقم الأوضاع الاقتصادية المتردّية أصلاً.
وعلى رغم أن تمديد اتفاقية نقل الغاز بين موسكو وكييف حتى عام 2034 (وفق ما تعهّدت به ألمانيا)، إضافة إلى قرار شركة «غازبروم» الروسية الإبقاء على نسبة 10 ــــ 15% من صادراتها إلى أوروبا عبر أوكرانيا، ستؤدي إلى التقليل من الضرر الاقتصادي الذي سيلحق بالأخيرة، إلّا أنّ الخيارات الأوكرانية الذاتية ستكون محدودة. وفي هذا الإطار، يدور الحديث عن إمكانية اللجوء إلى التنقيب عن الغاز والتصدير الخاص، لكن ذلك يبدو صعباً في الوقت الحالي، وفق تقاريرَ روسية، رأت أن كلّ «الدلائل تشير إلى أن كييف لن تكون قادرةً على الاستعداد الكامل لموسم التدفئة»، لافتةً إلى أنّ أوكرانيا «تعاني من نقصٍ في مواد الفحم والغاز اللذين يوفّران الكهرباء في البلاد». وهو أمرٍ حذّر منه بالفعل خبراء طاقة أوكرانيون، قالوا إنّ البلاد «قد تواجه مشكلة قطع التيار الكهربائي في الشتاء المقبل كما حصل العام الماضي»، في إشارةٍ إلى إمكانية الاضطرار لطلب المساعدة من روسيا البيضاء وروسيا في توفير إمدادات الكهرباء.



إسقاطات «أفغانستان» الأوكرانية
لم تستثنِ ظلال الانسحاب الأميركي من أفغانستان الملفّ الأوكراني، إذ سرعان ما بدأت الإسقاطات عليه، سواءً بالتشاؤم من تداعيات الانسحاب أو بالتقليل من أهمّيتها. إذ علت أصواتٌ في كييف بالحديث عن أن الولايات المتحدة قد تتخلّى عن أوكرانيا في أيّ وقت، وأنّ دعمها لها يقف عند حدود مصالح الأولى فقط، فيما رأى الطرف الأشدّ تفاؤلاً أن هكذا سيناريو يَصعب تَحقُّقه، نظراً إلى الدور الذي تلعبه كييف في مواجهة «التمدّد» الروسي وتهديده للأمن القومي الأوروبي. أمّا على المقلب الروسي، فقد اعتبرت تقارير صحافية أن «الهزيمة التي تعرّضت لها أميركا في أفغانستان وجّهت أخطر ضربةٍ لصورة واشنطن التي بُنيت عليها السياسة الخارجية الأميركية»، داعيةً «قادة أوكرانيا إلى أن ينتبهوا إلى موظّفي مطار كابول»، حين تخلّت واشنطن عن المتعاونين معها في المطار، مضيفةً أنّ «على كييف أن تعيد النظر في الاعتماد على ضماناتٍ أميركية غير رسمية». كما اعتبرت تلك التقارير أنّ على السلطات الأوكرانية أن تتعلّم درساً واحداً على الأقلّ من الأحداث في أفغانستان.
«لا يجوز تحت أيّ ظرف من الظروف المشاركة في الاستفزازات التي يعمل عليها حزب الحرب في الغرب ضدّ روسيا، جنباً إلى جنب مع حزب الحرب في أوكرانيا».