ما يغيظ أيتام الهيمنة «الحميدة» الأميركية، هذه الأيام، هو أنّ الإعلان عن «تمريغ رأسها في وحل أفغانستان»، لم يعد يصدر عمّن يسمّونهم «أبواق الممانعة»، بل عن أبرز المنظّرين، في ما مضى، للنموذج الأميركي على أنّه أفق التطوّر المستقبلي الوحيد والأبدي للإنسانية جمعاء. فرنسيس فوكوياما، المرجع الفكري، حتى لا نقول الروحي، لغالبية بينهم آمنت بنبوءاته، التي سطّرها في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، انضمّ إلى الإجماع الواسع وسط النخب الفكرية والسياسية الأميركية والغربية، حول اعتبار دخول «الطالبان» إلى كابول هزيمة منكرة لواشنطن. غير أنّ الأنكى بالنسبة إلى هؤلاء المكلومين، هو أنّ الإجماع المذكور ينطلق من الإقرار بهزيمة الولايات المتحدة ليصل إلى استنتاج آخر، مزلزل، وهو أنّ هيمنتها دخلت في طور متقدّم من الانحسار. أمام مثل هذا الاستنتاج، لم يجد الخائبون، من العرب أساساً، سوى اللجوء إلى مناورة فكرية مكشوفة ومكرورة، وهي التساؤل عن هوية المنتصر وطبيعة مشروعه السياسي والاجتماعي. سبق لأنصار الاستعمار القديم طرح النوع نفسه من الأسئلة، بعد نجاح حركات التحرّر الوطني في انتزاع استقلال بلادها والمصاعب الكبرى التي واجهتها خلال سنوات إعادة البناء الوطني التي تلت. قال هؤلاء: «هل هذا ما قاتلت الشعوب لأجله وضحّت؟ هل فعلت ذلك لكي تنشأ أنظمة حكم سلطوية أو من أجل الحفاظ على نظام الملل المكرّس لتمييز اجتماعي قاسٍ بين فئات الشعب كما حصل في الهند مثلاً؟». طبعاً، الفرضية المضمرة التي يستند إليها مثل هذا الهراء، هي أنّ أوضاع الشعوب المستعمرة كانت أفضل أيام سيطرة الأسياد البيض! الشعور بسعادة غامرة لهزيمة الإمبراطورية العاتية الأميركية في أفغانستان، لا يتأسّس على قاعدة التماهي مع البرنامج السياسي لـ«طالبان». مستقبل هذه البلاد، هو شأن شعبها الذي سيقرّر وحده مصيره وما يراه مناسباً لمصالحه وتطلّعاته من نظام سياسي واجتماعي، وهو قطعاً ليس شأن الغربيين، الذين نشروا الموت والدمار في ربوعها. كم عدد الأفغان الذين قتلتهم الولايات المتحدة وحلفاؤها المتحضّرون: عشرات الآلاف؟ مئات الآلاف؟ المتباكون الحاليون على مصير النساء الأفغانيات والأقلّيات الإثنية، لم يكلّفوا أنفسهم عناء إحصاء عدد الجثث. هذا النوع من التساؤلات التافهة هو إهانة لعقولنا. ينقسم العالم اليوم بين من يشعرون بالسعادة الغامرة لهزيمة واشنطن، ومن يرتعدون ذعراً بسببها. هم محقّون بذلك، لأنّ التحليلات الصادرة في الولايات المتحدة، قبل روسيا أو الصين أو إيران، تؤكّد أننا نشهد تسارعاً للتاريخ، ولكن ليس في الاتجاه الذي استشرفه فوكوياما قبل 30 عاماً.
نهاية حقبة تاريخية
لفرنسيس فوكوياما فضيلة، نادرة بين أترابه من المثقّفين الذين جرى تكريسهم ناطقين رسميين باسم الإيديولوجية السائدة، وهي الاعتراف العلني أكثر من مرّة بخطأ أطروحاته وتحليلاته. هو لم يتردّد، مثلاً، في القطيعة مع تيار «المحافظين الجدد» الذي انتمى إليه لفترة طويلة، وإصدار كتاب نقدي صارم لهم في عام 2006، بعنوان «ما بعد المحافظين الجدد: أميركا على مفترق طرق». يعيد فوكوياما الكرّة، لكنّه هذه المرّة يتراجع عن نظريته التي أكسبته شهرة عالمية حول نهاية التاريخ. ففي مقال على موقع «ذي إيكونوميست"»، بعنوان «نهاية الهيمنة الأميركية»، نُشر منذ أيام، هو يرى أنّ الاستقطاب الاجتماعي - السياسي داخل الولايات المتحدة، الذي تعاظم بفعل حروب التوسّع والسيطرة التي خاضتها، في العقود الثلاثة الأخيرة، والعولمة التي قادتها والأزمة المالية والاقتصادية في عام 2008 - 2009، بات عاملاً رئيسياً في إضعاف موقعها الدولي. ووفقاً له، فإنّ «المجتمع الأميركي منقسم بعمق، وأصبح يعاني صعوبة جمّة للوصول إلى إجماع حول أيّة قضية.
الثقة المفرطة بخلود الإمبراطورية الأميركية، هي سمة راسخة للعقل السياسي لأنصارها بين ظهرانينا

بدأ الاستقطاب حول موضوعات سياسية تقليدية كالضرائب والإجهاض، لكنّه توسّع ليصبح نزاعاً مريراً حول الهُويات الثقافية. طلب الاعتراف من قبل الجماعات التي اعتبرت أنها عانت التهميش من قبل النخب هو واقع التفت إليه قبل 30 سنة على أنّه كعب أخيل الديمقراطيات المعاصرة. كان من المفترض أن يُفضي تهديدٌ كبيرٌ كجائحة كورونا إلى اتحاد المواطنين حول سبل مواجهته. بدلاً من ذلك، غذّت الجائحة الانقسام الداخلي الأميركي، وتحوّل التباعد الاجتماعي وارتداء الأقنعة والتلقيح إلى رموز للتمايز السياسي… خلال الحرب الباردة وحتى بداية الألفية الثانية، ساد إجماع قوي بين النخب السياسية حول ضرورة الحفاظ على موقع أميركي قيادي على الصعيد الدولي. غير أنّ الحروب التي لا نهاية لها في أفغانستان والعراق، غيّرت موقف العديد من الأميركيين حيال التدخّل الخارجي ليس في الشرق الأوسط وحده، بل على مستوى العالم بأسره». مهما كانت العوامل التي يؤدّي تضافرها وتفاعلها إلى إضعاف الموقع المهيمن لقوة مسيطرة في مرحلة تاريخية محدّدة، فإن تداعيات هذا التطور أول ما تظهر في المناطق الخاضعة لسيطرتها. هذا سرّ ما حصل في أفغانستان، وما سيقع في منطقتنا، وفي مناطق أخرى، في الآتي من السنين.

كلّ إمبراطورية إلى زوال
الثقة المفرطة بخلود الإمبراطورية الأميركية، هي سمة راسخة للعقل السياسي لأنصارها بين ظهرانينا. نذير شؤم آخر لهؤلاء أطلقه المؤرّخ الأميركي - البريطاني، نيل فيرغسون، المسكون بنوستالجيا الإمبراطورية البريطانية، والذي أجهر بانتمائه إلى ما أسماه «العصابة النيوامبريالية» عقب الغزو الأميركي - البريطاني للعراق، في عام 2003. ففي مقالٍ بعنوان «نهاية الإمبراطورية الأميركية لن تتمّ بسلام» على موقع «ذي إيكونوميست»، جزم فيرغسون بأنّ مآل الإمبراطورية الأميركية لن يكون أفضل من ذلك الذي وصلت إليه الإمبراطورية البريطانية. هو يعتقد بأنّ اجتماع عوامل كارتفاع المديونية العامة للدولة، وتراجع وزنها الاقتصادي النسبي على المستوى الدولي لمصلحة منافسيها الصاعدين والأكلاف الضخمة للتوسّع الإمبراطوري الزائد، والذي عانت منه بريطانيا في زمن مضى وتعاني منه الولايات المتحدة حالياً، يقود إلى فقدان قطاعات وازنة من مجتمعها للشهية الإمبراطورية. وبحسب فيرغسون، فإنّ «البريطانيين في ثلاثينيات القرن الماضي، كما الأميركيين راهناً، فقدوا هواهم الإمبراطوري، وهو ما لاحظه المراقبون الصينيون وابتهجوا بسببه… المشكلة التي كشفها الانهيار الأميركي في أفغانستان هي أنّ التراجع عن الهيمنة العالمية يندر أن يحصل بشكل سلمي. مهما كانت الصياغة اللغوية المعتمدة للإعلان عن الانسحاب من أطول حرب قامت بشنّها، فإنّ ذلك يوازي الاعتراف بالهزيمة، وليس في نظر الطالبان وحدهم… قناعة السيد بايدن بإمكانية الخروج من أفغانستان على غرار ما فعله نيكسون في فيتنام، هي استعادةٌ لتجربة تاريخية سيّئة لأنّ إذلال أميركا في هذا البلد، كانت له نتائج خطيرة. هي شجّعت الاتحاد السوفياتي وحلفاءه على إثارة القلاقل في أماكن أخرى: في جنوب وشرق أفريقيا، وفي أميركا الوسطى وأفغانستان، التي غُزيت في عام 1979. تكرار سيناريو سقوط سايغون في كابول ستكون له تداعيات سلبية مشابهة».
لم تمنع القناعات الإيديولوجية لمدافعين بارزين عن ريادة النموذج الأميركي لعقود، من الإقرار بالهزيمة الأميركية في أفغانستان، وما تشي به من عوامل بنيوية تسرّع في انحسار هيمنة واشنطن على النطاق العالمي، على عكس مريديهم العرب. هنا تكمن أهمية هذه المقالات، ونحن نحضّهم على قراءتها بتمعّن، كما فعلوا سابقاً عندما روّجوا لنهاية التاريخ والهيمنة «الحميدة» وغيرها من الفقاعات الإيديولوجية.