لندن | تُشكّل المناطق القبلية البشتونية، التي تمتدّ عبر الحدود بين أفغانستان وباكستان وتشمل معظم الجزء الجنوبيّ من أفغانستان، إضافة إلى منطقة وزيرستان القبلية الباكستانية، قلعة قد لا تكون مرئية، ولكنها منيعة، صمدت أمام كلّ محاولات إخضاعها لسلطات مركزيّة، عبر التاريخ الحديث، وأصبحت بمثابة ثقب أسود على خريطة العالم لا يمكن عمليّاً حُكمه. لكن ذلك لا يعني مطلقاً أن الفوضى التامّة هي سيّدة الموقف هنا، فالبشتون الذين يزيد عددهم على الأربعين مليون نسمة، لديهم نظام حُكم محلّي بديل تمنع قواعده بوضوح إنشاء أيّ سلطة مركزية، وهو نظام مَكّنهم من مقاومة البريطانيين والباكستانيين والسوفيات، وأخيراً الأميركيين (وتابعهم "حلف شمال الأطلسي")، ما يجعلهم واحدة من أعظم قصص النجاح في مناهضة الإمبريالية والاستعمار على كوكبنا. وإذا كان هذا هو حالهم، فلِمَ تُكرِّر الإمبراطوريات محاولاتها العقيمة المكلفة في الأرواح والمعدّات لقهر جغرافيا وعرة ومستقلّة بشراسة، يصعب الوصول إليها والتنقّل فيها، وتكاد تكون بلا قيمة استراتيجيّة محدّدة؟ ألم يكن من الأسهل للأميركيين مثلاً - رئيسهم جو بايدن وصف أفغانستان بمقبرة الغزاة - أن يتركوا البشتون وشأنهم ويهتمّوا بحالات «التفلّت» المتكرّرة في حديقتهم الخلفية، حيث كوبا الجزيرة الصغيرة على بعد أميال من شواطئ ميامي محتفظة بشدّة باستقلالها منذ ستّين عاماً، وفنزويلا التي تمتلك أهمّ رصيد في العالم كلّه من النفط ما فتئت صامدة في وجه أقسى حصار تعرّضت له أمّة في العصر الحديث؟ ربّما يكون التفسير متّصلاً أساساً بظاهرة ارتبطت بالإمبرياليات الحديثة: ذلك الرفض الأعمى لكلّ أشكال الاستقلال السابقة للحداثة. فكلّ جيب من الكوكب، مهما كان صغيراً أو منعزلاً، يجب أن يخضع لدولة معترَف بها دولياً ملزمة بنظام سياسي عالمي، يُدار من خلال المعاهدات والعلاقات القانونية للدول، ولم يعد ممكناً للخيال المعاصر تحمّل فكرة وجود بقعة مستقلّة بالكليّة، ولو وحيدة على امتداد المعمورة، فكأنّها تشكّل حينئذ تناقضاً وجودياً مع النظام العالمي برمّته. ولهذا، فإن جهود القوى المهيمنة عالمياً، الرامية إلى القضاء على استقلال تلك البقعة المستقلّة، غالباً ما تكون غير متناسبة مع قيمتها الفعليّة أو تهديدها. وفي الحالة البشتونيّة تحديداً، فإن المحاولات المتكرّرة لإجبار هذه الأمّة على الخضوع لسلطة مركزية وإجلاس رئيس لها على طاولة المفاوضات، ومن ثم الدخول في معاهدات دولية انتهت دائماً إلى سوء فهم شديد، وكارثة مكلفة بفداحة لكلا الجانبين من دون التمكّن من تغييرهم مطلقاً إلى مشيخات خليجية. فالبشتون في ثقافتهم السياسية - الأعرق من ديمقراطيّة أثينا، وفق بعض المؤرخّين - لا يسلّمون شأنهم إلى زعيم واحد، وحتى إن اضطروا لذلك لأغراض قيادة دفاع منسّق ضدّ الغزاة، فيكون دائماً تفويضاً محدوداً ومؤقّتاً ومحكوماً بحُسن الأداء، ويمكن إنهاؤه في أيّ وقت لمصلحة عودة نظام لا مركزي وغير هرمي بصورة مدهشة. أمّا السياسة الخارجية، التي تتعاطاها تلك القبيلة، فيمكن اختصارها بعبارة «اذهبوا بعيداً عنّا ودعونا لشأننا»، فيما يمكن في وقت قياسيّ استنفار كلّ الأفراد الذكور فيها للعمل العسكري - المتهوّر أحياناً - من أجل الانتقام لحادثة قتل خارج الأعراف، سواء ارتكبها أفراد أو مجموعات أو دول، ومن دون حسبان العواقب.
يتضمّن «الباشتونوالي» مفاهيم رئيسة لا لبس فيها ولا اجتهاد، وجميعها لا يمكن أن تتعايش مع قوانين الدول بصيغتها الحديثة


مدوّنة قواعد السلوك القديمة المتوارثة هذه، تُعرف بـ«الباشتونوالي»، بمعنى «الطريقة البشتونيّة». وما يفعله البشتوني الجيّد، هو اتّباع «الباشتونوالي» بحذافيره كوسيلة لحماية نفسه، لأن أيّ بشتوني لا يتبع «الباشتونوالي» يصبح منبوذاً اجتماعياً، وغير قادر على الحصول على تعاون بقيّة البشتون الآخرين معه، وغالباً ما يكون عمره قصيراً في بلاد لا تعرف ما يسمّى بالحق في الحياة، بل أسباباً فقط لعدم قتل شخص ما. ويقول خبراء علم الاجتماع إنه لا يمكن إغراء البشتون بعروض التقدّم الاجتماعي والتنمية الاقتصادية والتعليم الحديث، لأن تلك كلّها ليست أغراض «الباشتونوالي». فالغرض من «الباشتونوالي» هو استدامة «الباشتونوالي» لا أكثر، ولا أقلّ. ومن الواضح أنه بهذا المقياس، فعّال جداً. ويُصنَّف المجتمع البشتوني على أنه تجمّع لا مركزي (بلا قائد)، تتمثّل الشخصيات الرئيسة فيه في الشيوخ (كبار الملّاك) الذين يخدمون زعيماً قبلياً محلّياً (يسمى خان)، ولكن مناصبهم القيادية جميعها بما فيها الخان نفسه، تظلّ في جميع الأوقات رهناً بوضعهم مصالح القبيلة في المقام الأول. وتتمّ عمليّات صنع القرار عبر توافق الآراء، ما يصعّب، إلى حدّ الاستحالة أحياناً، العمل بشكل موحّد عبر القبيلة البشتونيّة كلّها. ومع ذلك، فهم قادرون عند مواجهة تهديد خارجي، على التوحّد على قلب رجل واحد، حتى يتمّ القضاء على التهديد.
يتضمّن «الباشتونوالي» مفاهيم رئيسة لا لبس فيها ولا اجتهاد، وجميعها لا يمكن أن تتعايش مع قوانين الدول بصيغتها الحديثة: الشرف، الذي يعني اتخاذ إجراءات انتقام فوريّة بغضّ النظر عن العواقب كلّما تمّ انتهاك «الباشتونوالي»؛ ومبدأ البدل، أي ما يقارب «العين بالعين» في حالة الإصابة أو الضرر، مع السماح بدفع فدية تقبلها المجموعة لتجنّب إراقة الدماء، وقبول الكذب والغدر والقتل لغاية حماية المرء لنفسه. ويُعتبر السجن غير مقبول وغير عادل، تحت أيّ ظرف من الظروف، لأنّه يعقّد عملية الانتقام ويعيق دفع التعويضات. ولهذا، فإن حوادث اقتحام السجون في أفغانستان متكرّرة، ليس لإنقاذ حياة السجناء من حياة قاسية فقط، بل في الأغلب لتصفية حسابات قبليّة عالقة، حيث يمكن قتل السجناء المحرَّرين لاحقاً، أو جمع تعويضات من أُسرهم. أيضاً، ثمّة قانون الضيافة، والذي يفرض على أيّ بشتوني أن يرحّب بتوفير ملاذ آمن لكلّ من يلجأ إليه، وهذا يعني أن القوانين ضدّ إيواء الهاربين والتحقيقات الرسمية، وما إلى ذلك من إجراءات الأجهزة الأمنية لا معنى لها فعلياً، ومحاولات إنفاذها تُعرّض الأفراد القائمين بها للسقوط في مسألة «البدل» أو الانتقام. والهيئة العموميّة الحاكمة للبشتون، هي الـ«جيرغا»، التي لا تجتمع إلّا في المناسبات المهمّة عند الحاجة، وفيها يجلس المشاركون في دائرة على قدم المساواة، ولكلّ منهم الحق في الكلام. ولا يوجد أحد يترأسها، إذ لا متفوّق في منطق «الباشتونوالي». ويستند القرار في النهاية إلى توافق الآراء، لكن لا أحد يجرؤ على رفض قرارات الـ«جيرغا» بعدما صدرت. ومن المهمّ الانتباه إلى أن هيئة الـ«جيرغا» تحتفظ بالحق في إلغاء أيّ اتفاق دخلت فيه مسبقاً، ما يجعل فكرة المعاهدات الدولية مع البشتون أمراً غير ذي صلة.
«الباشتونوالي» هو ببساطة نموذج مطلق مثالي، لظاهرة وصفها كارل ماركس، وهي التمظهر المادي للإيديولوجيا، الأمر الذي جعل من محاولة الهيمنة على البشتون مهمّة مستعصية. البريطانيون كانوا أوّل مَن حاول الاشتباك معهم من الإمبراطوريّات الحديثة، وتفاءل ضبّاطهم المنتشون من الهيمنة على الهند، بفرض قانون العقوبات الهندي على أفغانستان أيضاً. لكنّ البشتون رفضوا الاعتراف بهذه المدوّنة، وكانت النتيجة قدراً كبيراً من المذابح المتبادلة. وبعدما تخلّى البريطانيون عن محاولات فرض القانون، حاولوا فصل قبائل السهول عن قبائل التلال، لكن تلك أيضاً أغرقتهم في بحر مذابح استمرّ ثلاثين عاماً. وفي نهاية المطاف، اضطرّوا إلى الاعتراف بالقانون القبلي البشتوني، وغادروا على عجل بشكل غير لائق، بعدما تعاظمت خسائرهم، تاركين البشتون للنظام الباكستاني الجديد، الذي مارس «المساكنة» معهم، واعترف لاحقاً بحركة «طالبان» التي يقودها البشتون. السوفيات أيضاً تورّطوا في أفغانستان، محاولين الدفاع عن نظام اشتراكي قام في بعض المناطق الحضريّة، لكن السيطرة على المناطق الجبليّة، بما فيها التلال المحيطة بالعاصمة كابول، بقيت للبشتون. وقد قصفت القاذفات السوفياتية، بلا هوادة، الحدود الأفغانية الباكستانية لإنشاء منطقة خالية من السكّان، كحاجز لمنع انتقال الأسلحة والمقاتلين، لكنها خلقت بذلك مجتمع لاجئين ضخماً جلب انتباه وكالة الاستخبارات المركزية، للاستثمار فيه على طريق إيقاع هزيمة مدوّية بالشيوعية. هكذا، زوّد الأميركيون، شركاءهم، بصواريخ «ستينغر» المضادّة للطائرات، ما أضعف قدرة السوفيات على مواصلة الحملة الجوية، فيما لقيت جهودهم على الأرض لكسب قلوب البشتون وقلوبهم فشلاً ذريعاً، حتى أصبح الصراع بالنسبة إلى موسكو مكلفاً، من دون أفق أو فوائد تُرتجى، وهو ما أجبرها على سحب قوّاتها بلا عودة.
تداخَل الإسلام بثقافة البشتون، ومَنح أيديولوجيا الباشتونوالي عمقاً أكبر، لاسيما لناحية بذل النفس رخيصة من أجل الجهاد الذي تُقرّره القبيلة، ولم يجدوا فيه تعارضاً يُذكر مع مبادئهم الحاكمة أو حتى مصدر رزقهم الأساسي في الوقت الحالي: زراعة وتجارة الأفيون الذي يعتبر محصولاً زراعياً، ومصدراً للثروة والعملات الأجنبية - تغطّي الصادرات الأفغانية منه الآن ما يزيد عن 80 بالمائة من حجم السوق العالمي .