لماذا انهار الجيش الأفغاني بهذه السرعة؟ إذا ما أراد السائل الركون إلى تصريحات الرئيس جو بايدن، ووزير دفاعه، لويد أوستن، وغيرهما من المسؤولين الأميركيين، سيصل، مباشرة، إلى خلاصة مفادها أن القوات العسكرية الأفغانية اختارت، بكلّ بساطة، عدم القتال في وجه "طالبان"، مفضّلة الاستسلام أمام أحد أكثر التنظيمات شراسة وعنفاً. وبهذا المعنى، تكون الرواية جاهزة، وربما سهلة وكافية، لتجنّب تحمّل اللوم على سقوط أفغانستان في يد "طالبان"، في أيام معدودة.ولكن في الواقع، أثار سقوط أفغانستان الكثير من الأسئلة الجدية عن الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة، طيلة عشرين عاماً، أنفقت خلالها 83 مليار دولار، لتدريب الجيش الأفغاني وتجهيزه. ومع مرور الوقت، بدأت تظهر تحليلات ومعلومات، قد يناقض بعضها ما ذهب إليه بايدن، وربّما يفيد بعضها الآخر بأنه سعى إلى تضليل الرأي العام الأميركي. كانت العديد من التقارير قد أشارت إلى ضعف القوات الأفغانية منذ سنوات، ثمّ عاد هذا الحديث ليتجدّد، مع إعلان بايدن سحب قوّاته، بحلول شهر أيلول. وبحسب ما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز"، أمس، رسمت التقييمات السرية لوكالات الاستخبارات الأميركية، خلال الصيف، صورة قاتمة لاحتمال استيلاء "طالبان" على أفغانستان، وحذّرت من الانهيار السريع للجيش الأفغاني، حتى في الوقت الذي قال فيه الرئيس الأميركي ومستشاروه إن ذلك من غير المرجّح أن يحدث بسرعة. وتوقّعت وكالات الاستخبارات أنّه إذا استولت "طالبان" على المدن، عندها سيحدث انهيار متتالٍ بسرعة، وستكون قوات الأمن الأفغانية معرّضة بشدّة للانهيار.
وفي أثناء ذلك، خلُص تحليل تاريخي قُدّم إلى الكونغرس، إلى أن "طالبان" تعلّمت دروساً من استيلائها على البلاد في التسعينيات. وأشار إلى أن الجماعة المتشدّدة ستؤمّن، هذه المرّة، المعابر الحدودية أولاً، وتسيطر على عواصم المقاطعات وتستولي على مساحات شاسعة من شمال البلاد، قبل الانتقال إلى كابول، وهو توقّع ثبتت دقّته.
وفي بداية شهر حزيران، نشرت مجلّة "ذي إيكونوميست" البريطانية تقريراً مطوّلاً، عقدت فيه مقارنة بين حقبة ما بعد خروج قوات الاتحاد السوفياتي، والحقبة الحالية. المجلّة تحدّثت مع الجنرال السابق عتيق الله أمرخل، الذي كان قائداً في سلاح الجو الأفغاني، عندما غادرت القوات السوفياتية في عام 1989. حينها، كان من المتوقّع أن تنهار الحكومة التي تركوها وراءهم، برئاسة محمد نجيب الله، في غضون أسابيع، تحت هجوم من "المجاهدين" والمسلّحين الإسلاميين المدعومين من أميركا وباكستان. ولكن في الواقع، "نجح أمرخل ورفاقه في صدّ المسلّحين لمدّة ثلاث سنوات. هذا الأخير أعرب عن اعتقاده بأن الروس تركوه ورفاقه مجهّزين بشكل أفضل لصدّ المسلّحين، مما ترك الأميركيون نظراءه الحاليين.
حتّى إن أحد أعدائه يوافق على هذا الرأي. قلب الدين حكمتيار، قائد لفصيل "المجاهدين"، المسمّى "الحزب الإسلامي"، تلقّى نصيب الأسد من المساعدات التي قدّمتها وكالة الاستخبارات المركزية، والمملكة العربية السعودية، عبر باكستان، في الثمانينيات. وهو جالس في مكتبه، قال للمجلّة، إنّ الجيش الذي تركه الاتحاد السوفياتي لمحاربته كان "بلا شكّ" أقوى من الجيش الذي عمل "حلف شمال الأطلسي" على تربيته.
رسمت تقييمات وكالات الاستخبارات صورة قاتمة لاحتمال استيلاء «طالبان» على أفغانستان


ومع ذلك، فإن مقارنة القوة النسبية للقوات الأفغانية في ذلك الوقت والآن، هي مجرّد عنصر واحد في إطار العديد من العناصر المتضافرة، إذ يبدو أن وتيرة الانسحاب الأميركي شجّعت قادة "طالبان"، الذين كانوا يعتقدون بأن لديهم فرصة لتحقيق نصر عسكري. وهم من هذا المنطلق، بدأوا يحشدون ضدّ عناصر القوات الأفغانية، الذين كان يجري التفاوض معهم عبر السكّان المحليين، كي يكون استسلامهم سريعاً، وإلّا كانت العواقب وخيمة. ووفق صحيفة "واشنطن بوست"، بدأ "الانهيار المذهل" للجيش الأفغاني، بسلسلة من الصفقات التي تمّت بوساطة في القرى الريفية بين الجماعة المتشدّدة، وبعض أضعف أفراد الحكومة الأفغانية. الصحيفة نفسها أشارت إلى أن قادة "طالبان" كانوا يعرضون أموالاً، في بعض الأحيان، مقابل تسليم القوات الحكومية أسلحتهم. "البعض أراد المال فقط"، قال ضابط في القوات الخاصة الأفغانية، ولكنه أضاف أن "آخرين نظروا إلى التزام الولايات المتحدة بالانسحاب الكامل، على أنه ضمانٌ بأن المسلّحين سيعودون إلى السلطة في أفغانستان، ويريدون تأمين مكانهم في الجانب الفائز".
إذاً، في صميم الخسارة الأميركية في أفغانستان، كان فشل واشنطن في الاستماع إلى أولئك الذين يثيرون تساؤلات بشأن الجيش الأفغاني. ولكن هذا الواقع لا يجيب على السؤال الأساسي: حقّاً، لماذا لم يقاتل الجيش الأفغاني بقوة أكبر لوقف "طالبان"؟ ماكس بوت، الكاتب في صحيفة "واشنطن بوست"، والزميل البارز في "مجلس العلاقات الخارجية"، ومؤلّف كتاب "جيوش غير مرئية: ملحمة التاريخ من حرب العصابات في العصور القديمة إلى يومنا هذا"، لخّص الإجابة، في مقولة نابوليون بونابرت: "في الحرب، الروح المعنوية تساوي عشرة أضعاف القدرة الجسدية".
بوت يتّفق مع غالبية نظرائه، الذين اعتبروا أن الجيش الأفغاني الذي تعلّم الاعتماد على الدعم الأميركي للقوة الجوية والاستخبارات واللوجستيات والتخطيط والعوامل التمكينية الحيوية الأخرى، "أصيب بالإحباط بسبب قرار الولايات المتحدة التخلّي عنه".
ولكن هل هذا كافٍ لعدم القتال؟ تفيد العديد من التقارير بأسباب أخرى ساهمت، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تجنّب عناصر الجيش الأفغاني قتال "طالبان". ويمكن تلخيص هذه الأسباب، بالتالي:
- في الأشهر الأخيرة، عجز الجيش الأفغاني عن توفير الإمدادات الحيوية، مثل الغذاء والذخيرة، للعديد من النقاط المنتشرة في جميع أنحاء البلاد. علاوة على ذلك، كان "البنتاغون" يسدّد رواتب الجيش الأفغاني على مدى أعوام. ولكن منذ أن تمّ الإعلان عن نية الانسحاب، في أيار، باتت مسؤولية هذه الرواتب تقع على عاتق الحكومة الأفغانية. وقد شكا العديد من الجنود الأفغان من أنهم لم يتلقّوا رواتبهم لأشهر.
- كان لجهود التدريب الأميركية العديد من أوجه القصور، في اللغة، والمعرفة الثقافية، ونقص الخبرة في تدريب الشرطة، ما يضرّ بالأمن على المستوى المحلّي. بالإضافة إلى ذلك، ركّزت جهود الولايات المتحدة كثيراً على تعليم مهارات المشاة التكتيكية، مع إهمال نوع الخبرة العالية المستوى في اللوجستيات والتخطيط والتدريب والقيادة والسيطرة اللازمة، للحفاظ على قوة عسكرية.
- من جهة أخرى، أعاقت جهود التدريب الأميركية عوامل خارجة عن إرادتها، بما في ذلك نقص التعليم في واحدة من أفقر دول العالم، وأكثرها انتشاراً للفساد. وقد يعني كلّ هذا الفساد أن أعداد القوات الأفغانية، مثل تلك التي استشهد بها بايدن، كانت مبالغاً فيها إلى حدّ كبير، إذ وجدت "أوراق أفغانستان"، التي نُشرت في صحيفة "واشنطن بوست"، في عام 2019، أنّه من بين 352 ألف جندي وشرطي تمّ اعتبارهم أعضاء في قوات الأمن في البلاد، يمكن تأكيد 254 ألفاً فقط من قبل الحكومة الأفغانية. وهنا، تبرز عبارة "جنود أشباح"، الذين كانوا غطاءً لزيادة رواتب القادة الأفغان.
- إضافة إلى ما تقدّم، ينتقد كثيرون الجيش الأميركي لبنائه قوة أفغانية على صورته، تعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا، التي لا يستطيع الأفغان الحفاظ عليها بأنفسهم.
- في الأشهر الأخيرة، كان عناصر الشرطة والجنود، الذين يشكّلون الجزء الأكبر من القوات الحكومية، يتلاشون، بسرعة، عندما يتعرّضون للهجوم. حتى قوات "حلف شمال الأطلسي" المجهّزة بشكل أفضل، كافحت بصعوبة ضدّ أساليب حرب العصابات التي تشنّها "طالبان"، بما في ذلك الكمائن والألغام المحلّية الصنع.
أخيراً، على الرغم من أنه من السهل إلقاء اللوم على القوات الأفغانية لعدم قتالها بضراوة، فمن المهم الإشارة إلى أن أكثر من ستين ألفاً من أفراد قوات الأمن الأفغانية قُتلوا في العشرين عاماً الماضية، أي 27 مرة أكثر من عدد القتلى الأميركيين في الحرب.