على رغم أن حُكمه انتهى عملياً منذ توقيع الاتفاق، بين الولايات المتحدة وحركة «طالبان» في شباط 2020، ظلَّ أشرف غني متشبّثاً بالسلطة. استُبعد الرجل من جولات التفاوض، وجرى تهميشه نزولاً عند رغبة الجماعة الأفغانية، فيما غُيِّبت سلطته عن مضامين ما تمّ الاتفاق عليه. في المعادلة الجديدة، اقتصر دور حكومته على تنفيذ بنود «اتفاق الدوحة»، أي الشروع في مفاوضات سلام مع «طالبان» وضعت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، التقدُّم المُحرز فيها شرطاً رئيساً للانسحاب من أفغانستان، الذي يمثّل بدوره لُبّ ما جرى الاتفاق عليه. لم يكن غني ليقبل، على أيّ حال، هذه المفاضلة، فاختار الاشتغال على تعطيل الاتفاق، خشيةَ أن تشاركه «طالبان» ما اعتَقد أنه إرث الاحتلال الدائم له وحده، بل إنه فضّل أن يحكم على أطلال بلد ممزّق ومدمّر، شرط ألّا يبرح مكانه. ظهر جلياً قلقُ حاكم كابول من مفاوضات يُحتمل أن تؤدّي، في حال تخطّت بروتوكولات السلام والصور، إلى تداول السلطة مع أعدائه، أو أن يصبح أعداؤه، في أقلّ تقدير، جزءاً منها.سياسة العرقلة والمماطلة هذه، أثبتت هي الأخرى فشلها. عبثاً، حاول غني إقناع الولايات المتحدة بالعدول عن قرارها الانسحاب من أفغانستان، والذي تسارعت وتيرته في الشهرين الماضيين، في موازاة سقوط الأقاليم الأفغانية في أيدي مقاتلي حركة «طالبان»، من دون مقاومة تُذكر. صباح الأحد، حلّ غني ضيفاً على السفارة الأميركية في كابول، حيث قِيل إنه كان يتفاوض مع مبعوث البيت الأبيض إلى أفغانستان، زلماي خليل زاد، حول دفْع عملية السلام المتعثّرة قُدُماً. لكن مآل اليوم الطويل الذي انتهى بفرار الرئيس السابق رفقة أسرته وحاشية من المسؤولين، فضلاً عن سيارات محمّلة بملايين الدولارات، وعودة الحركة إلى العاصمة لتزعُّم السلطة، يفرض التوقُّف قليلاً عند إحدى محطّات غني الأخيرة، أي السفارة، والتي يحتمل أنها سهّلت خروجه من البلد. انتهى الحال بالأكاديمي والخبير الاقتصادي لاجئاً في أبو ظبي، حاله حال زميلَيْه، عبد ربه منصور هادي، وزين العابدين بن علي، الموجودَيْن في الرياض. لا شكّ في أن ما جرى يمثّل منعطفاً مخزٍياً لـ«التكنوقراطي» الذي وضع، للمفارقة، كتاباً بعنوان: «إصلاح الدول الفاشلة».
عبثاً، حاول غني إقناع الولايات المتحدة بالعدول عن قرارها الانسحاب من أفغانستان


«سيُعرف باسم بنديكت أرنولد الأفغاني»، يقول سعد محسني، صاحب إحدى محطات التلفزيون الأكثر شعبية في أفغانستان، «طلوع». ويضيف: «سيبصق الناس على قبره لمئة عام قادمة». يُظهّر غني، من نواحٍ كثيرة، جهود أميركا الفاشلة لإعادة بناء أفغانستان وجيشها على صورتها؛ فهو أدار هيكل القيادتين العسكرية والمدنية، واستبدل الكفاءات بالولاء الشخصي. واتُّهم غني، وهو من البشتون، بإبعاد الجماعات العرقية الأخرى، فيما أدار ظهره للفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة، مستفيداً ممّا وعد بتنظيفه. أراد غني المساهمة في «إعادة بناء» بلاده، لكنّه أصبح خلال سنوات رمزاً لانهيار الدولة، بعدما انتُخب رئيساً، للمرّة الأولى، في عام 2014، إثر حملة تعهّد في خلالها بمحاربة الفساد المستشري، وإصلاح الاقتصاد المعطّل، وتحويل البلاد إلى مركز تجاري إقليمي بين وسط آسيا وجنوبها. غني البالغ 72 عاماً، نشأ في أفغانستان وغادر البلاد في عام 1977 إلى الولايات المتحدة حيث درس الأنثروبولوجيا والعلوم السياسية في جامعة كولومبيا في نيويورك، وعمل في مجال التدريس في عدة جامعات أميركية خلال الاحتلال السوفياتي لأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. كما عمل في «البنك الدولي» منذ عام 1991، وعاد إلى كابول مستشاراً خاصاً للأمم المتحدة بُعيد إطاحة «طالبان» من الحكم في عام 2001. في المرحلة التي تلت، أدى دوراً رئيساً في تشكيل الحكومة الانتقالية، وأصبح وزير مالية نافذاً في ظلّ رئاسة حميد كرزاي من عام 2002 حتى عام 2004. عُرف غني بحيويته ومواظبته على العمل، لكنّه بات يوصف لاحقاً بأنه «غير مرن ومزاجي». وبحسب الكاتب الباكستاني، أحمد راشد، الذي تربطه معرفة بغني منذ نحو 30 عاماً، فإن الأخير «لم يسمح لأحد بالتقرّب منه»، وهو اعتبر أن نوبات غضبه المتكرّرة وغطرسته تجاه مواطنيه «جعلت منه شخصية مكروهة». وبدلاً من «إعادة بناء» أفغانستان، فرّ غني بالطريقة التي حكم بها: معزولاً. لكنه، مع هذا، دافع عن قراره بالقول إن «طالبان انتصرت بعدما احتكمت إلى السيف والبنادق وهي مسؤولة الآن عن شرف الحفاظ على بلادها»، مؤكداً أنه غادر بلاده لتجنيبها «إراقة الدماء»، ولأن «عدداً كبيراً من المواطنين كانوا سيُقتلون» والعاصمة «كانت ستُدمّر» لو بقي فيها.